صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا ( 24 ) )

وهذا تأديب من الله عز ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم ، عهد إليه أن لا يجزم على ما يحدث من الأمور أنه كائن لا محالة ، إلا أن يصله بمشيئة الله ، لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله .

وإنما قيل له ذلك فيما بلغنا من أجل أنه وعد سائليه عن المسائل الثلاث اللواتي قد ذكرناها فيما مضى اللواتي ، إحداهن المسألة عن أمر الفتية من أصحاب الكهف أن يجيبهم عنهن غد يومهم ، ولم يستثن ، فاحتبس الوحي عنه فيما قيل من أجل ذلك خمس عشرة ، حتى حزنه إبطاؤه ، ثم أنزل الله عليه الجواب عنهن ، وعرف نبيه سبب احتباس الوحي عنه ، وعلمه ما الذي ينبغي أن يستعمل في [ ص: 645 ] عداته وخبره عما يحدث من الأمور التي لم يأته من الله بها تنزيل ، فقال : ( ولا تقولن ) يا محمد لشيء إني فاعل ذلك غدا ) كما قلت لهؤلاء الذين سألوك عن أمر أصحاب الكهف ، والمسائل التي سألوك عنها ، سأخبركم عنها غدا ( إلا أن يشاء الله ) . ومعنى الكلام : إلا أن تقول معه : إن شاء الله ، فترك ذكر تقول اكتفاء بما ذكر منه ، إذ كان في الكلام دلالة عليه ، وكان بعض أهل العربية يقول : جائز أن يكون معنى قوله : ( إلا أن يشاء الله ) استثناء من القول ، لا من الفعل كأن معناه عنده : لا تقولن قولا إلا أن يشاء الله ذلك القول ، وهذا وجه بعيد من المفهوم بالظاهر من التنزيل مع خلافه تأويل أهل التأويل .

وقوله : ( واذكر ربك إذا نسيت ) اختلف أهل التأويل في معناه ، فقال بعضهم : واستثن في يمينك إذا ذكرت أنك نسيت ذلك في حال اليمين .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن هارون الحربي ، قال : ثنا نعيم بن حماد ، قال : ثنا هشيم ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في الرجل يحلف ، قال له : أن يستثني ولو إلى سنة ، وكان يقول ( واذكر ربك إذا نسيت ) في ذلك قيل للأعمش سمعته من مجاهد ، فقال : ثني به ليث بن أبي سليم ، يرى ذهب كسائي هذا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت ) الاستثناء ، ثم ذكرت فاستثن .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، في قوله : ( واذكر ربك إذا نسيت ) قال : بلغني أن الحسن ، قال : إذا ذكر أنه لم يقل : إن شاء الله ، فليقل : إن شاء الله .

وقال آخرون : معناه : واذكر ربك إذا عصيت .

ذكر من قال ذلك :

حدثني نصر بن عبد الرحمن ، قال : ثنا حكام بن سلم ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن عكرمة ، في قول الله : ( واذكر ربك إذا نسيت ) [ ص: 646 ] قال : اذكر ربك إذا عصيت .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن عكرمة ، مثله .

وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : واذكر ربك إذا تركت ذكره ، لأن أحد معاني النسيان في كلام العرب الترك ، وقد بينا ذلك فيما مضى قبل .

فإن قال قائل : أفجائز للرجل أن يستثني في يمينه إذ كان معنى الكلام ما ذكرت بعد مدة من حال حلفه؟ قيل : بل الصواب أن يستثني ولو بعد حنثه في يمينه ، فيقول : إن شاء الله ليخرج بقيله ذلك مما ألزمه الله في ذلك بهذه الآية ، فيسقط عنه الحرج بتركه ما أمره بقيله من ذلك ، فأما الكفارة فلا تسقط عنه بحال ، إلا أن يكون استثناؤه موصولا بيمينه .

فإن قال : فما وجه قول من قال له : ثنياه ولو بعد سنة ، ومن قال له ذلك ولو بعد شهر ، وقول من قال ما دام في مجلسه؟ قيل : إن معناهم في ذلك نحو معنانا في أن ذلك له ، ولو بعد عشر سنين ، وأنه باستثنائه وقيله إن شاء الله بعد حين من حال حلفه ، يسقط عنه الحرج الذي لو لم يقله كان له لازما ، فأما الكفارة فله لازمة بالحنث بكل حال ، إلا أن يكون استثناؤه كان موصولا بالحلف ، وذلك أنا لا نعلم قائلا قال ممن قال له الثنيا بعد حين يزعم أن ذلك يضع عنه الكفارة إذا حنث ، ففي ذلك أوضح الدليل على صحة ما قلنا في ذلك ، وأن معنى القول فيه ، كان نحو معنانا فيه .

وقوله : ( وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا ) يقول عز ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل ولعل الله أن يهديني فيسددني لأسد مما وعدتكم وأخبرتكم أنه سيكون ، إن هو شاء .

وقد قيل : إن ذلك مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله إذا نسي الاستثناء في كلامه ، الذي هو عنده في أمر مستقبل مع قوله : إن شاء الله ، إذا ذكر .

ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن محمد ، رجل من أهل الكوفة ، كان يفسر القرآن ، وكان يجلس إليه [ ص: 647 ] يحيى بن عباد ، قال : ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا ) قال فقال : وإذا نسي الإنسان أن يقول : إن شاء الله ، قال : فتوبته من ذلك ، أو كفارة ذلك أن يقول : ( عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية