صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ( 29 ) )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا ، واتبعوا أهواءهم ، الحق أيها الناس من عند [ ص: 10 ] ربكم ، وإليه التوفيق والخذلان ، وبيده الهدى والضلال يهدي من يشاء منكم للرشاد ، فيؤمن ، ويضل من يشاء عن الهدى فيكفر ، ليس إلي من ذلك شيء ، ولست بطارد لهواكم من كان للحق متبعا ، وبالله وبما أنزل علي مؤمنا ، فإن شئتم فآمنوا ، وإن شئتم فاكفروا ، فإنكم إن كفرتم فقد أعد لكم ربكم على كفركم به نارا أحاط بكم سرادقها ، وإن آمنتم به وعملتم بطاعته ، فإن لكم ما وصف الله لأهل طاعته .

وروي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) يقول : من شاء الله له الإيمان آمن ، ومن شاء الله له الكفر كفر ، وهو قوله : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) وليس هذا بإطلاق من الله الكفر لمن شاء ، والإيمان لمن أراد ، وإنما هو تهديد ووعيد .

وقد بين أن ذلك كذلك قوله : ( إنا أعتدنا للظالمين نارا ) والآيات بعدها .

كما حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن عمر بن حبيب ، عن داود ، عن مجاهد ، في قوله : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) . قال : وعيد من الله ، فليس بمعجزي .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) وقوله ( اعملوا ما شئتم ) قال : هذا كله وعيد ليس مصانعة ولا مراشاة ولا تفويضا . وقوله : ( إنا أعتدنا للظالمين نارا ) يقول تعالى ذكره : إنا أعددنا ، وهو من العدة . للظالمين : الذين كفروا بربهم .

كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ) قال : للكافرين ، وقوله : ( أحاط بهم سرادقها ) يقول : أحاط سرادق النار التي أعدها الله للكافرين بربهم ، وذلك فيما قيل : حائط من نار يطيف بهم كسرادق الفسطاط ، وهي الحجرة التي تطيف بالفسطاط ، كما قال رؤبة :

[ ص: 11 ]

يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق الفضل عليك ممدود



وكما قال سلامة بن جندل :


هو المولج النعمان بيتا سماؤه     صدور الفيول بعد بيت مسردق



يعني : بيتا له سرادق .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : ( إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ) قال : هي حائط من نار .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عمن أخبره ، قال ( أحاط بهم سرادقها ) قال : دخان يحيط بالكفار يوم القيامة ، وهو الذي قال الله : ( ظل ذي ثلاث شعب ) . [ ص: 12 ]

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر يدل على أن معنى قوله ( أحاط بهم سرادقها ) أحاط بهم ذلك في الدنيا ، وأن ذلك السرادق هو البحر .

ذكر من قال ذلك : حدثني العباس بن محمد والحسين بن نصر ، قالا ثنا أبو عاصم ، عن عبد الله بن أمية ، قال : ثني محمد بن حيي بن يعلى ، عن صفوان بن يعلى ، عن يعلى بن أمية ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البحر هو جهنم" قال : فقيل له : كيف ذلك ، فتلا هذه الآية ، أو قرأ هذه الآية : ( نارا أحاط بهم سرادقها ) ثم قال : والله لا أدخلها أبدا أو ما دمت حيا ، ولا تصيبني منها قطرة .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا يعمر بن بشر ، قال : ثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا رشدين بن سعد ، قال : ثني عمرو بن الحارث ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سرادق النار أربعة جدر ، كثف كل واحد مثل مسيرة أربعين سنة " .

حدثنا بشر ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن لسرادق النار أربعة جدر ، كثف كل واحد مثل مسيرة أربعين سنة " .

حدثنا بشر ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ماء كالمهل" ، قال : "كعكر الزيت ، فإذا قربه إليه سقط فروة وجهه فيه " .

وقوله : ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل ) يقول تعالى ذكره : وإن يستغث هؤلاء الظالمون يوم القيامة في النار من شدة ما بهم من العطش ، فيطلبون الماء يغاثوا بماء المهل .

واختلف أهل التأويل في المهل ، فقال بعضهم : هو كل شيء أذيب وانماع .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، [ ص: 13 ] عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن ابن مسعود أهديت إليه سقاية من ذهب وفضة ، فأمر بأخدود فخد في الأرض ، ثم قذف فيه من جزل حطب ، ثم قذف فيه تلك السقاية ، حتى إذا أزبدت وانماعت قال لغلامه : ادع من يحضرنا من أهل الكوفة ، فدعا رهطا ، فلما دخلوا عليه قال : أترون هذا؟ قالوا : نعم ، قال : ما رأينا في الدنيا شبيها للمهل أدنى من هذا الذهب والفضة ، حين أزبد وانماع .

وقال آخرون : هو القيح والدم الأسود .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم ، عن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل ) قال : القيح والدم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( بماء كالمهل ) قال : القيح والدم الأسود ، كعكر الزيت ، قال الحارث في حديثه : يعني درديه .

حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( كالمهل ) قال : يقول : أسود كهيئة الزيت .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( بماء كالمهل ) ماء جهنم أسود ، وهي سوداء ، وشجرها أسود ، وأهلها سود .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل ) قال : هو ماء غليظ مثل دردي الزيت .

وقال آخرون : هو الشيء الذي قد انتهى حره .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن جعفر وهارون بن عنترة ، عن سعيد بن جبير ، قال : المهل : هو الذي قد انتهى حره .

وهذه الأقوال وإن اختلفت بها ألفاظ قائليها ، فمتقاربات المعنى ، وذلك [ ص: 14 ] أن كل ما أذيب من رصاص أو ذهب أو فضة فقد انتهى حره ، وأن ما أوقدت عليه من ذلك النار حتى صار كدردي الزيت ، فقد انتهى أيضا حره .

وقد : حدثت عن معمر بن المثنى ، أنه قال : سمعت المنتجع بن نبهان يقول : والله لفلان أبغض إلي من الطلياء والمهل ، قال : فقلنا له : وما هما؟ فقال : الجرباء ، والملة التي تنحدر عن جوانب الخبزة إذا ملت في النار من النار ، كأنها سهلة حمراء مدققة ، فهي أحمره ، فالمهل إذا هو كل مائع قد أوقد عليه حتى بلغ غاية حره ، أو لم يكن مائعا ، فانماع بالوقود عليه ، وبلغ أقصى الغاية في شدة الحر .

وقوله : ( يشوي الوجوه بئس الشراب ) يقول جل ثناؤه : يشوي ذلك الماء الذي يغاثون به وجوههم .

كما حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : ثنا حيوة بن شريح ، قال : ثنا بقية ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الله بن بسر ، هكذا قال ابن خلف عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في قوله ( ويسقى من ماء صديد يتجرعه ) قال : يقرب إليه فيتكرهه ، فإذا قرب منه ، شوى وجهه ، ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه ، يقول الله : ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب ) .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثني إبراهيم بن إسحاق الطالقاني ويعمر بن بشر ، قالا ثنا ابن المبارك ، عن صفوان ، عن عبد الله بن بسر ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر وهارون بن عنترة ، عن سعيد بن جبير ، قال هارون : إذا جاع أهل النار ، وقال جعفر : إذا جاء أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم ، فأكلوا منها ، فاختلست جلود وجوههم ، فلو أن مارا مار بهم يعرفهم ، لعرف جلود وجوههم فيها ، ثم يصب عليهم العطش ، فيستغيثون ، فيغاثون بماء كالمهل ، وهو الذي قد انتهى حره ، فإذا أدنوه من [ ص: 15 ] أفواههم انشوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود .

وقوله : ( بئس الشراب ) يقول تعالى ذكره : بئس الشراب ، هذا الماء الذي يغاث به هؤلاء الظالمون في جهنم الذي صفته ما وصف في هذه الآية .

وقوله : ( وساءت مرتفقا ) يقول تعالى ذكره : وساءت هذه النار التي أعتدناها لهؤلاء الظالمين مرتفقا ، والمرتفق في كلام العرب : المتكأ ، يقال منه : ارتفقت إذا اتكأت ، كما قال الشاعر :


قالت له وارتفقت ألا فتى     يسوق بالقوم غزالات الضحى



أراد : واتكأت على مرفقها ، وقد ارتفق الرجل : إذا بات على مرفقه لا يأتيه نوم ، وهو مرتفق ، كما قال أبو ذؤيب الهذلي :


نام الخلي وبت الليل مرتفقا     كأن عيني فيها الصاب مذبوح



وأما من الرفق فإنه يقال : قد ارتفقت بك مرتفقا ، وكان مجاهد يتأول قوله : ( وساءت مرتفقا ) يعني المجتمع .

ذكر الرواية بذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( مرتفقا ) : أي مجتمعا .

حدثني يعقوب ، قال : ثنا معتمر ، عن ليث ، عن مجاهد ( وساءت مرتفقا ) قال : مجتمعا . [ ص: 16 ]

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله ، ولست أعرف الارتفاق بمعنى الاجتماع في كلام العرب ، وإنما الارتفاق : افتعال ، إما من المرفق ، وإما من الرفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية