صفحة جزء
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ولا الضالين ) .

قال أبو جعفر : كان بعض أهل البصرة يزعم أن " لا " مع " الضالين " أدخلت تتميما للكلام ، والمعنى إلغاؤها ، يستشهد على قيله ذلك ببيت العجاج : [ ص: 190 ]


في بئر حور سرى وما شعر



ويتأوله بمعنى : في بئر حور سرى ، أي في بئر هلكة ، وأن " لا " بمعنى الإلغاء والصلة . ويعتل أيضا لذلك بقول أبي النجم :


فما ألوم البيض أن لا تسخرا     لما رأين الشمط القفندرا



وهو يريد : فما ألوم البيض أن تسخر وبقول الأحوص :


ويلحينني في اللهو أن لا أحبه     وللهو داع دائب غير غافل



يريد : ويلحينني في اللهو أن أحبه ، وبقوله تعالى : ( ما منعك ألا تسجد ) سورة الأعراف : 12 ، يريد أن تسجد . وحكي عن قائل هذه المقالة أنه كان يتأول " غير " التي " مع " المغضوب عليهم " ، أنها بمعنى " سوى . فكأن معنى الكلام كان عنده : اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، الذين هم سوى المغضوب والضالين .

وكان بعض نحويي الكوفة يستنكر ذلك من قوله ، ويزعم أن " غير " [ ص: 191 ] التي " مع المغضوب عليهم " ، لو كانت بمعنى سوى ، لكان خطأ أن يعطف عليها ب " لا " ، إذ كانت " لا " لا يعطف بها إلا على جحد قد تقدمها . كما كان خطأ قول القائل : "عندي سوى أخيك ولا أبيك " ، لأن سوى ليست من حروف النفي والجحود . ويقول : لما كان ذلك خطأ في كلام العرب ، وكان القرآن بأفصح اللغات من لغات العرب ، كان معلوما أن الذي زعمه القائل : أن "غير " مع " المغضوب عليهم " بمعنى : سوى المغضوب عليهم ، خطأ . إذ كان قد كر عليه الكلام ب " لا " . وكان يزعم أن " غير " هنالك إنما هي بمعنى الجحد . إذ كان صحيحا في كلام العرب ، وفاشيا ظاهرا في منطقها توجيه " غير " إلى معنى النفي ومستعملا فيهم : "أخوك غير محسن ولا مجمل " ، يراد بذلك أخوك لا محسن ، ولا مجمل ، ويستنكر أن تأتي " لا " بمعنى الحذف في الكلام مبتدأ ، ولما يتقدمها جحد . ويقول : لو جاز مجيئها بمعنى الحذف مبتدأ ، قبل دلالة تدل ذلك من جحد سابق ، لصح قول قائل قال : "أردت أن لا أكرم أخاك " ، بمعنى : أردت أن أكرم أخاك . وكان يقول : ففي شهادة أهل المعرفة بلسان العرب على تخطئة قائل ذلك ، دلالة واضحة على أن " لا " لا تأتي مبتدأة بمعنى الحذف ، ولما يتقدمها جحد . وكان يتأول في " لا " التي في بيت العجاج ، الذي ذكرنا أن البصري استشهد به ، بقوله : إنها جحد صحيح ، وأن معنى البيت : سرى في بئر لا تحير عليه خيرا ، ولا يتبين له فيها أثر عمل ، وهو لا يشعر بذلك ولا يدري به . من قولهم : "طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا " ، أي لم يتبين لها أثر عمل . ويقول في سائر الأبيات الأخر ، أعني مثل بيت أبي النجم : :


فما ألوم البيض أن لا تسخرا



إنما جاز أن تكون " لا " بمعنى الحذف ، لأن الجحد قد تقدمها في أول الكلام ، فكان الكلام الآخر مواصلا للأول ، كما قال الشاعر : [ ص: 192 ]


ما كان يرضى رسول الله فعلهم     والطيبان أبو بكر ولا عمر



فجاز ذلك ، إذ كان قد تقدم الجحد في أول الكلام .

قال أبو جعفر : وهذا القول الآخر أولى بالصواب من الأول ، إذ كان غير موجود في كلام العرب ابتداء الكلام من غير جحد تقدمه ب " لا " التي معناها الحذف ، ولا جائز العطف بها على " سوى " ، ولا على حرف الاستثناء . وإنما ل " غير " في كلام العرب معان ثلاثة : أحدها الاستثناء ، والآخر الجحد ، والثالث سوى . فإذا ثبت خطأ " لا " أن يكون بمعنى الإلغاء مبتدأ ، وفسد أن يكون عطفا على " غير " التي مع " المغضوب عليهم " ، لو كانت بمعنى " إلا " التي هي استثناء ، ولم يجز أيضا أن يكون عطفا عليها لو كانت بمعنى " سوى " ، وكانت " لا " موجودة عطفا بالواو التي هي عاطفة لها على ما قبلها - صح وثبت أن لا وجه ل " غير " ، التي مع " المغضوب عليهم " ، يجوز توجيهها إليه على صحة إلا بمعنى الجحد والنفي ، وأن لا وجه لقوله : " ولا الضالين " ، إلا العطف على " غير المغضوب عليهم " .

فتأويل الكلام إذا - إذ كان صحيحا ما قلنا بالذي عليه استشهدنا - اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، لا المغضوب عليهم ولا الضالين .

فإن قال لنا قائل : ومن هؤلاء الضالون الذين أمرنا الله بالاستعاذة بالله أن يسلك بنا سبيلهم ، أو نضل ضلالهم ؟

قيل : هم الذين وصفهم الله في تنزيله فقال : ( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) [ ص: 193 ] سورة المائدة : 77 .

فإن قال : وما برهانك على أنهم أولاء ؟

قيل :

207 - حدثنا أحمد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن أبي حاتم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولا الضالين " قال : النصارى .

208 - حدثنا محمد بن المثنى ، أنبأنا محمد بن جعفر ، أنبأنا شعبة ، عن سماك ، قال : سمعت عباد بن حبيش يحدث ، عن عدي بن حاتم ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الضالين : النصارى " .

209 - حدثني علي بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن مصعب ، عن حماد بن سلمة ، عن سماك بن حرب ، عن مري بن قطري ، عن عدي بن حاتم ، قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله : " ولا الضالين " ، قال : النصارى هم الضالون .

210 - حدثنا حميد بن مسعدة السامي ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا الجريري ، عن عبد الله بن شقيق : أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر وادي القرى قال : قلت : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الضالون : النصارى .

211 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد الجريري ، عن عروة ، يعني ابن عبد الله بن قيس ، عن عبد الله بن شقيق ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه . [ ص: 194 ]

212 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن بديل العقيلي ، قال : أخبرني عبد الله بن شقيق ، أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو على فرسه وسأله رجل من بني القين ، فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ - قال : هؤلاء الضالون " ، يعني النصارى .

213 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن عبد الله بن شقيق ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو محاصر وادي القرى وهو على فرس : من هؤلاء ؟ قال : الضالون . يعني النصارى .

214 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد : " ولا الضالين " قال : النصارى .

215 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " ولا الضالين " قال : وغير طريق النصارى الذين أضلهم الله بفريتهم عليه . قال : يقول : فألهمنا دينك الحق ، وهو لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، حتى لا تغضب علينا كما غضبت على اليهود ، ولا تضلنا كما أضللت النصارى فتعذبنا بما تعذبهم به . يقول امنعنا من ذلك برفقك ورحمتك وقدرتك .

216 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الضالين النصارى . [ ص: 195 ]

217 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " ولا الضالين " ، هم النصارى .

218 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر ، عن ربيع : "ولا الضالين " ، النصارى .

219 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : "ولا الضالين " ، النصارى .

220 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه . قال : الضالين ، النصارى .

قال أبو جعفر : فكل حائد عن قصد السبيل ، وسالك غير المنهج القويم ، فضال عند العرب ، لإضلاله وجه الطريق . فلذلك سمى الله جل ذكره النصارى ضلالا لخطئهم في الحق منهج السبيل ، وأخذهم من الدين في غير الطريق المستقيم .

فإن قال قائل : أوليس ذلك أيضا من صفة اليهود ؟

قيل : بلى!

فإن قال : كيف خص النصارى بهذه الصفة ، وخص اليهود بما وصفهم به من أنهم مغضوب عليهم ؟

قيل : كلا الفريقين ضلال مغضوب عليهم ، غير أن الله جل ثناؤه وسم كل فريق منهم من صفته لعباده بما يعرفونه به ، إذا ذكره لهم أو أخبرهم عنه . ولم يسم واحدا من الفريقين إلا بما هو له صفة على حقيقته ، وإن كان له من صفات الذم زيادات عليه .

فيظن بعض أهل الغباء من القدرية أن في وصف الله جل ثناؤه النصارى [ ص: 196 ] بالضلال ، بقوله : " ولا الضالين " ، وإضافته الضلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه ، وتركه وصفهم بأنهم المضللون ، كالذي وصف به اليهود أنهم المغضوب عليهم - دلالة على صحة ما قاله إخوانه من جهلة القدرية ، جهلا منه بسعة كلام العرب وتصاريف وجوهه .

ولو كان الأمر على ما ظنه الغبي الذي وصفنا شأنه ، لوجب أن يكون شأن كل موصوف بصفة أو مضاف إليه فعل ، لا يجوز أن يكون فيه سبب لغيره ، وأن يكون كل ما كان فيه من ذلك لغيره سبب ، فالحق فيه أن يكون مضافا إلى مسببه ، ولو وجب ذلك ، لوجب أن يكون خطأ قول القائل : " تحركت الشجرة " ، إذ حركتها الرياح; و " اضطربت الأرض " ، إذ حركتها الزلزلة ، وما أشبه ذلك من الكلام الذي يطول بإحصائه الكتاب .

وفي قول الله جل ثناؤه : ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) سورة يونس : 22 - بإضافته الجري إلى الفلك ، وإن كان جريها بإجراء غيرها إياها - ما دل على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله : " ولا الضالين " ، وادعائه أن في نسبة الله جل ثناؤه الضلالة إلى من نسبها إليه من النصارى ، تصحيحا لما ادعى المنكرون : أن يكون لله جل ثناؤه في أفعال خلقه سبب من أجله وجدت أفعالهم ، مع إبانة الله عز ذكره نصا في آي كثيرة من تنزيله ، أنه المضل الهادي ، فمن ذلك قوله جل ثناؤه : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ) سورة الجاثية : 23 . فأنبأ جل ذكره أنه المضل الهادي دون غيره .

ولكن القرآن نزل بلسان العرب ، على ما قدمنا البيان عنه في أول الكتاب ، ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وجد منه - وإن كان مسببه غير الذي وجد [ ص: 197 ] منه - أحيانا ، وأحيانا إلى مسببه ، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيره . فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسبا ، ويوجده الله جل ثناؤه عينا منشأة ؟ بل ذلك أحرى أن يضاف إلى مكتسبه; كسبا له ، بالقوة منه عليه ، والاختيار منه له - وإلى الله جل ثناؤه ، بإيجاد عينه وإنشائها تدبيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية