1. الرئيسية
  2. تفسير الطبري
  3. تفسير سورة الكهف
  4. القول في تأويل قوله تعالى "فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما "
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا ( 77 ) )

يقول تعالى ذكره : فانطلق موسى والعالم ( حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها ) [ ص: 78 ] من الطعام فلم يطعموهما واستضافاهم ( فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض )

يقول : وجدا في القرية حائطا يريد أن يسقط ويقع ، يقال منه : انقضت الدار : إذا انهدمت وسقطت ، ومنه انقضاض الكوكب ، وذلك سقوطه وزواله عن مكانه ، ومنه قول ذي الرمة :


فانقض كالكوكب الدري منصلتا



وقد روي عن يحيى بن يعمر أنه قرأ ذلك : ( يريد أن ينقاض ) .

وقد اختلف أهل العلم بكلام العرب إذا قرئ ذلك كذلك في معناه ، فقال بعض أهل البصرة منهم : مجاز ينقاض : أي ينقلع من أصله ، ويتصدع ، بمنزلة قولهم : قد انقاضت السن : أي تصدعت ، وتصدعت من أصلها ، يقال : فراق كقيض السن : أي لا يجتمع أهله .

وقال بعض أهل الكوفة منهم : الانقياض : الشق في طول الحائط في طي البئر وفي سن الرجل ، يقال : قد انقاضت سنه : إذا انشقت طولا . وقيل : إن القرية التي استطعم أهلها موسى وصاحبه ، فأبوا أن يضيفوهما : الأيلة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني الحسين بن محمد الذراع ، قال : ثنا عمران بن المعتمر صاحب الكرابيسي ، قال : ثنا حماد أبو صالح ، عن محمد بن سيرين ، قال : انتابوا الأيلة ، فإنه قل من يأتيها فيرجع منها خائبا ، وهي الأرض التي أبوا أن يضيفوهما ، وهي أبعد أرض الله من السماء .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية ) وتلا إلى قوله ( لاتخذت عليه أجرا ) شر القرى التي لا تضيف الضيف ، ولا تعرف لابن السبيل حقه .

واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قول الله عز وجل ( يريد أن ينقض ) فقال بعض أهل البصرة : ليس للحائط إرادة ولا للموات ، ولكنه إذا [ ص: 79 ] كان في هذه الحال من رثة فهو إرادته وهذا كقول العرب في غيره :


يريد الرمح صدر أبي براء     ويرغب عن دماء بني عقيل



وقال آخر منهم : إنما كلم القوم بما يعقلون ، قال : وذلك لما دنا من الانقضاض ، جاز أن يقول : يريد أن ينقض ، قال : ومثله ( تكاد السماوات يتفطرن ) وقولهم : إني لأكاد أطير من الفرح ، وأنت لم تقرب من ذلك ، ولم تهم به ، ولكن لعظيم الأمر عندك ، وقال بعض الكوفيين منهم : من كلام العرب أن يقولوا : الجدار يريد أن يسقط ، قال : ومثله من قول العرب قول الشاعر :


إن دهرا يلف شملي بجمل     لزمان يهم بالإحسان



وقول الآخر :


يشكو إلي جملي طول السرى     صبرا جميلا فكلانا مبتلى



قال : والجمل لم يشك ، إنما تكلم به على أنه لو تكلم لقال ذلك ، قال : وكذلك قول عنترة :


وازور من وقع القنا بلبانه     وشكا إلي بعبرة وتحمحم

[ ص: 80 ]

قال : ومنه قول الله عز وجل : ( ولما سكت عن موسى الغضب ) والغضب لا يسكت ، وإنما يسكت صاحبه . وإنما معناه : سكن .

وقوله : ( فإذا عزم الأمر ) إنما يعزم أهله ، وقال آخر منهم : هذا من أفصح كلام العرب ، وقال : إنما إرادة الجدار : ميله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تراءى ناراهما " وإنما هو أن تكون ناران كل واحدة من صاحبتها بموضع لو قام فيه إنسان رأى الأخرى في القرب ، قال : وهو كقول الله عز وجل في الأصنام : ( وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) قال : والعرب تقول : داري تنظر إلى دار فلان ، تعني : قرب ما بينهما ، واستشهد بقول ذي الرمة في وصفه حوضا أو منزلا دارسا :


قد كاد أو قد هم بالبيود



قال : فجعله يهم ، وإنما معناه : أنه قد تغير للبلى ، والذي نقول به في ذلك أن الله عز ذكره بلطفه ، جعل الكلام بين خلقه رحمة منه بهم ، ليبين بعضهم لبعض عما في ضمائرهم ، مما لا تحسه أبصارهم ، وقد عقلت العرب معنى القائل :


في مهمه قلقت به هاماتها     قلق الفئوس إذا أردن نصولا



وفهمت أن الفئوس لا توصف بما يوصف به بنو آدم من ضمائر الصدور مع وصفها إياهما بأنها تريد ، وعلمت ما يريد القائل بقوله :


كمثل هيل النقا طاف المشاة به     ينهال حينا وينهاه الثرى حينا



وإنما لم يرد أن الثرى نطق ، ولكنه أراد به أنه تلبد بالندى ، فمنعه من الإنهيال ، [ ص: 81 ] فكان منعه إياه من ذلك كالنهي من ذوي المنطق فلا ينهال . وكذلك قوله : ( جدارا يريد أن ينقض ) قد علمت أن معناه : قد قارب من أن يقع أو يسقط ، وإنما خاطب جل ثناؤه بالقرآن من أنزل الوحي بلسانه ، وقد عقلوا ما عنى به وإن استعجم عن فهمه ذوو البلادة والعمى ، وضل فيه ذوو الجهالة والغبا .

وقوله : ( فأقامه ) ذكر عن ابن عباس أنه قال : هدمه ثم قعد يبنيه .

حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .

وقال آخرون في ذلك ما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ( فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض ) قال : رفع الجدار بيده فاستقام .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عز ذكره أخبر أن صاحب موسى وموسى وجدا جدارا يريد أن ينقض فأقامه صاحب موسى ، بمعنى : عدل ميله حتى عاد مستويا .

وجائز أن يكون كان ذلك بإصلاح بعد هدم ، وجائز أن يكون كان برفع منه له بيده ، فاستوى بقدرة الله ، وزال عنه ميله بلطفه ، ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر للعذر قاطع بأي ذلك كان من أي .

وقوله : ( قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا ) يقول : قال موسى لصاحبه : لو شئت لم تقم لهؤلاء القوم جدارهم حتى يعطوك على إقامتك أجرا ، فقال بعضهم : إنما عنى موسى بالأجر الذي قال له ( لو شئت لاتخذت عليه أجرا ) القرى : أي حتى يقرونا ، فإنهم قد أبوا أن يضيفونا .

وقال آخرون : بل عنى بذلك العوض والجزاء على إقامته الحائط المائل .

واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والكوفة ( لو شئت لاتخذت عليه أجرا ) على التوجيه منهم له إلى أنه لافتعلت من الأخذ ، وقرأ ذلك بعض أهل البصرة ( لو شئت لتخذت ) بتخفيف التاء وكسر الخاء ، وأصله : لافتعلت ، غير أنهم جعلوا التاء كأنها من أصل الكلمة ، ولأن الكلام عندهم في فعل ويفعل من ذلك : تخذ فلان كذا يتخذه تخذا ، وهي لغة فيما ذكر لهذيل ، وقال بعض الشعراء : [ ص: 82 ]


وقد تخذت رجلي لدى جنب غرزها     نسيفا كأفحوص القطاة المطرق



والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما لغتان معروفتان من لغات العرب بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، غير أني أختار قراءته بتشديد التاء على لافتعلت ، لأنها أفصح اللغتين وأشهرهما ، وأكثرهما على ألسن العرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية