القول في تأويل قوله تعالى : ( 
ثم أتبع سببا  ( 92 ) 
حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا  ( 93 ) 
قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا  ( 94 ) ) 
يقول تعالى ذكره : ثم سار طرقا ومنازل ، وسلك سبلا ( 
حتى إذا بلغ بين السدين  ) . 
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء 
المدينة  وبعض 
الكوفيين   ( 
حتى إذا بلغ بين السدين  ) بضم السين وكذلك جميع ما في القرآن من ذلك بضم السين . وكان بعض قراء 
المكيين  يقرءونه بفتح ذلك كله . وكان 
أبو عمرو بن العلاء  يفتح السين في هذه السورة ، ويضم السين في يس ، ويقول : السد بالفتح : هو الحاجز بينك وبين الشيء ; والسد بالضم : ما كان من غشاوة في العين . وأما 
الكوفيون  فإن قراءة عامتهم في جميع القرآن بفتح السين غير قوله :  
[ ص: 102 ]  ( 
حتى إذا بلغ بين السدين  ) فإنهم ضموا السين في ذلك خاصة . 
وروي عن 
عكرمة  في ذلك ، ما حدثنا به 
أحمد بن يوسف ،  قال : ثنا 
القاسم ،  قال : ثنا 
حجاج ،  عن 
هارون ،  عن 
أيوب ،  عن 
عكرمة  قال : ما كان من صنعة بني آدم فهو السد ، يعني بالفتح ، وما كان من صنع الله فهو السد  . 
وكان الكسائي يقول : هما لغتان بمعنى واحد . 
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، ولغتان متفقتا المعنى غير مختلفة ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، ولا معنى للفرق الذي ذكر عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=12114أبي عمرو بن العلاء ،  وعكرمة  بين السد والسد ، لأنا لم نجد لذلك شاهدا يبين عن فرق ما بين ذلك على ما حكي عنهما . وما يبين ذلك أن جميع أهل التأويل الذي روي لنا عنهم في ذلك قول - لم يحك لنا عن أحد منهم تفصيل بين فتح ذلك وضمه ، ولو كانا مختلفي المعنى لنقل الفصل مع التأويل إن شاء الله . ولكن معنى ذلك كان عندهم غير مفترق ، فيفسر الحرف بغير تفصيل منهم بين ذلك . وأما ما ذكر عن 
عكرمة  في ذلك ، فإن الذي نقل ذلك عن 
أيوب  وهارون ،  وفي نقله نظر ، ولا نعرف ذلك عن 
أيوب  من رواية ثقات أصحابه . والسد والسد جميعا : الحاجز بين الشيئين ، وهما هاهنا فيما ذكر جبلان سد ما بينهما ، فردم 
ذو القرنين  حاجزا بين 
يأجوج  ومأجوج  ومن وراءهم ، ليقطع ماد غوائلهم وعبثهم عنهم . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا 
القاسم ،  قال : ثنا 
الحسين ،  قال : ثني 
حجاج ،  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ،  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني ،  عن 
ابن عباس   ( 
حتى إذا بلغ بين السدين  ) قال : الجبلين الردم الذي بين يأجوج ومأجوج ، أمتين من وراء ردم ذي القرنين : قال : الجبلان : أرمينية وأذربيجان  . 
حدثنا 
بشر ،  قال : ثنا 
يزيد ،  قال : ثنا 
سعيد ،  عن 
قتادة   ( 
حتى إذا بلغ بين السدين  ) وهما جبلان  . 
حدثت عن 
الحسين ،  قال : سمعت 
أبا معاذ  يقول : ثنا 
عبيد ،  قال : سمعت 
الضحاك  يقول في قوله ( 
بين السدين  ) يعني بين جبلين  .  
[ ص: 103 ] 
حدثنا 
الحسن بن يحيى ،  قال : أخبرنا 
عبد الرزاق ،  قال : أخبرنا 
معمر ،  عن 
قتادة ،  في قوله ( 
بين السدين  ) قال : هما جبلان  . 
وقوله ( 
وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا  ) يقول عز ذكره : وجد من دون السدين قوما لا يكادون يفقهون قول قائل سوى كلامهم . 
وقد اختلفت القراء في قراءة قوله ( يفقهون ) فقرأته عامة قراء أهل 
المدينة  والبصرة  وبعض أهل 
الكوفة   ( 
يفقهون قولا  ) بفتح القاف والياء ، من فقه الرجل يفقه فقها : وقرأ ذلك عامة قراء أهل 
الكوفة   ( 
يفقهون قولا  ) بضم الياء وكسر القاف : من أفقهت فلانا كذا أفقهه إفقاها : إذا فهمته ذلك . 
والصواب عندي من القول في ذلك ، أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، غير دافعة إحداهما الأخرى ، وذلك أن القوم الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يفقهون قولا لغيرهم عنهم ، فيكون صوابا القراءة بذلك . وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك كانوا لا يكادون أن يفقهوا غيرهم لعلل : إما بألسنتهم ، وإما بمنطقهم ، فتكون القراءة بذلك أيضا صوابا . 
وقوله ( 
إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض  ) اختلفت القراء في قراءة قوله ( 
إن يأجوج ومأجوج  ) فقرأت القراء من أهل 
الحجاز  والعراق  وغيرهم "إن ياجوج وماجوج " بغير همز على فاعول من يججت ومججت ، وجعلوا الألفين فيهما زائدتين ، غير 
عاصم بن أبي النجود   nindex.php?page=showalam&ids=13723والأعرج ،  فإنه ذكر أنهما قرآ ذلك بالهمز فيهما جميعا ، وجعلا الهمز فيهما من أصل الكلام ، وكأنهما جعلا 
يأجوج   : يفعول من أججت ، 
ومأجوج   : مفعول . 
والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا ، "إن ياجوج وماجوج" بألف بغير همز لإجماع الحجة من القراء عليه ، وأنه الكلام المعروف على ألسن العرب ; ومنه قول 
 nindex.php?page=showalam&ids=15876رؤبة بن العجاج   . 
لو أن ياجوج وماجوج معا وعاد عادوا واستجاشوا تبعا 
وهم أمتان من وراء السد .  
[ ص: 104 ] 
وقوله : ( 
مفسدون في الأرض  ) اختلف أهل التأويل في معنى الإفساد الذي وصف الله به هاتين الأمتين ، فقال بعضهم : كانوا يأكلون الناس . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا 
أحمد بن الوليد الرملي ،  قال : ثنا 
إبراهيم بن أيوب الخوزاني ،  قال : ثنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=15500الوليد بن مسلم ،  قال : سمعت 
سعيد بن عبد العزيز  يقول في قوله ( 
إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض  ) قال : كانوا يأكلون الناس  . 
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض ، لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون . 
ذكر من قال ذلك ، وذكر صفة اتباع ذي القرنين الأسباب التي ذكرها الله في هذه الآية ، وذكر سبب بنائه للردم : حدثنا 
ابن حميد ،  قال : ثنا 
سلمة ،  قال : ثنا 
محمد بن إسحاق ،  قال : ثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب ، ممن قد أسلم ، مما توارثوا من علم ذي القرنين ، أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر اسمه مرزبا بن مردبة اليوناني ، من ولد يونان بن يافث بن نوح  . 
حدثنا 
ابن حميد ،  قال : ثنا 
سلمة ،  قال : ثني 
محمد بن إسحاق ،  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=15614ثور بن يزيد ،  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=15802خالد بن معدان الكلاعي ،  وكان 
خالد  رجلا قد أدرك الناس " 
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذى القرنين فقال ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب  " قال خالد : وسمع 
 nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب  رجلا يقول :  
[ ص: 105 ] يا ذا القرنين ، فقال : اللهم غفرا ، أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء ، حتى تسموا بأسماء الملائكة؟ فإن كان رسول الله قال ذلك ، فالحق ما قال ، والباطل ما خالفه  . 
حدثنا 
ابن حميد ،  قال : ثنا 
سلمة ،  قال : ثني 
محمد بن إسحاق ،  قال : فحدثني من لا أتهم عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه اليماني ،  وكان له علم بالأحاديث الأول ، أنه كان يقول : 
ذو القرنين  رجل من 
الروم ،  ابن عجوز من عجائزهم ، ليس لها ولد غيره ، وكان اسمه 
الإسكندر .  وإنما سمي 
ذا القرنين  أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس ; فلما بلغ وكان عبدا صالحا ، قال الله عز وجل له : يا 
ذا القرنين  إني باعثك إلى أمم الأرض ، وهي أمم مختلفة ألسنتهم ، وهم جميع أهل الأرض ، ومنهم أمتان بينهما طول الأرض كله ; ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كله ، وأمة في وسط الأرض منهم الجن والإنس 
ويأجوج  ومأجوج   . فأما الأمتان اللتان بينهما طول الأرض : فأمة عند مغرب الشمس ، يقال لها : 
ناسك   . وأما الأخرى : فعند مطلعها يقال لها : 
منسك   . وأما اللتان بينهما عرض الأرض ، فأمة في قطر الأرض الأيمن ، يقال لها : 
هاويل   . وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر ، فأمة يقال لها : 
تاويل   ; فلما قال الله له ذلك ، قال له 
ذو القرنين   : إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت ، فأخبرني عن هذه الأمم التي بعثتني إليها ، بأي قوة أكابدهم ، وبأي جمع أكاثرهم ، وبأي حيلة أكايدهم ، وبأي صبر أقاسيهم ، وبأي لسان أناطقهم ، وكيف لي بأن أفقه لغاتهم ، وبأى سمع أعي قولهم ، وبأي بصر أنفذهم ، وبأي حجة أخاصمهم ، وبأي قلب أعقل عنهم ، وبأي حكمة أدبر أمرهم ، وبأي قسط أعدل بينهم ، وبأي حلم أصابرهم ، وبأي معرفة أفصل بينهم ، وبأي علم أتقن أمورهم ، وبأي يد أسطو عليهم ، وبأي رجل أطؤهم ، وبأي طاقة أخصمهم ، وبأي جند أقاتلهم ، وبأي رفق أستألفهم ، فإنه ليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم لهم ، ولا يقوى عليهم ولا يطيقهم . وأنت الرب الرحيم . الذي لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يحملها إلا طاقتها ، ولا يعنتها ولا يفدحها ، بل أنت ترأفها وترحمها . 
قال الله عز  
[ ص: 106 ] وجل : إني سأطوقك ما حملتك ، أشرح لك صدرك ، فيسع كل شيء وأشرح لك فهمك فتفقه كل شيء ، وأبسط لك لسانك ، فتنطق بكل شيء ، وأفتح لك سمعك فتعي كل شيء ، وأمد لك بصرك ، فتنفذ كل شيء ، وأدبر أمرك فتتقن كل شيء ، وأحصي لك فلا يفوتك شيء ، وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء ، وأشد لك ظهرك ، فلا يهدك شيء ، وأشد لك ركنك فلا يغلبك شيء ، وأشد لك قلبك فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة ، فأجعلهما جندا من جنودك ، يهديك النور أمامك ، وتحوطك الظلمة من ورائك ، وأشد لك عقلك فلا يهولك شيء ، وأبسط لك من بين يديك ، فتسطو فوق كل شيء ، وأشد لك وطأتك ، فتهد كل شيء ، وألبسك الهيبة فلا يرومك شيء .
ولما قيل له ذلك ، انطلق يؤم الأمة التي عند مغرب الشمس ، فلما بلغهم ، وجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله ، وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله ، وألسنة مختلفة وأهواء متشتتة ، وقلوبا متفرقة ، فلما رأى ذلك كاثرهم بالظلمة ، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها ، فأحاطتهم من كل مكان ، وحاشتهم حتى جمعتهم في مكان واحد ، ثم أخذ عليهم بالنور ، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته ، فمنهم من آمن له ، ومنهم من صد ، فعمد إلى الذين تولوا عنه . فأدخل عليهم الظلمة . فدخلت في أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم ، ودخلت في بيوتهم ودورهم ، وغشيتهم من فوقهم ، ومن تحتهم ومن كل جانب منهم ، فماجوا فيها وتحيروا ، فلما أشفقوا أن يهلكوا فيها عجوا إليه بصوت واحد ، فكشفها عنهم وأخذهم عنوة ، فدخلوا في دعوته ، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة ، فجعلهم جندا واحدا ، ثم انطلق بهم يقودهم ، والظلمة تسوقهم من خلفهم وتحرسهم من حولهم ، والنور أمامهم يقودهم ويدلهم ، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى ، وهو يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها 
هاويل   . وسخر الله له يده وقلبه ورأيه وعقله ونظره وائتماره ، فلا يخطئ إذا ائتمر ، وإذا عمل عملا أتقنه . فانطلق يقود تلك الأمم وهي تتبعه ، فإذا انتهى إلى بحر أو مخاضة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال النعال ، فنظمها في ساعة ، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم وتلك الجنود ، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها ، ثم دفع إلى كل إنسان لوحا فلا يكرثه حمله ،  
[ ص: 107 ] فلم يزل كذلك دأبه حتى انتهى إلى 
هاويل ،  فعمل فيها كعمله في 
ناسك   . فلما فرغ منها مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتى انتهى إلى 
منسك  عند مطلع الشمس ، فعمل فيها وجند منها جنودا ، كفعله في الأمتين اللتين قبلها ، ثم كر مقبلا في ناحية الأرض اليسرى ، وهو يريد 
تاويل  وهي الأمة التي بحيال 
هاويل ،  وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض كله ; فلما بلغها عمل فيها ، وجند منها كفعله فيما قبلها ، فلما فرغ منها عطف منها إلى الأمم التي وسط الأرض من الجن وسائر الناس ، ويأجوج 
ومأجوج  ، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع 
الترك  نحو المشرق ، قالت له أمة من الإنس صالحة : يا 
ذا القرنين ،  إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله ، وكثير منهم مشابه للإنس ، وهم أشباه البهائم ، يأكلون العشب ، ويفترسون الدواب والوحوش كما تفترسها السباع ، ويأكلون خشاش الأرض كلها من الحيات والعقارب ، وكل ذي روح مما خلق الله في الأرض ، وليس لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد ، ولا يزداد كزيادتهم ، ولا يكثر ككثرتهم ، فإن كانت لهم مدة على ما نرى من نمائهم وزيادتهم ، فلا شك أنهم سيملئون الأرض ، ويجلون أهلها عنها ويظهرون عليها فيفسدون فيها ، وليست تمر بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونحن نتوقعهم ، وننتظر أن يطلع علينا أوائلهم من بين هذين الجبلين ( 
فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما  ) أعدوا إلي الصخور والحديد والنحاس حتى أرتاد بلادهم ، وأعلم علمهم ، وأقيس ما بين جبليهم . 
ثم انطلق يؤمهم حتى دفع إليهم وتوسط بلادهم ، فوجدهم على مقدار واحد ، ذكرهم وأنثاهم ، مبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا ، لهم مخالب في موضع الأظفار من أيدينا ، وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها . وأحناك كأحناك الإبل ، قوة تسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الجرة من الإبل ، أو كقضم الفحل المسن ، أو الفرس القوي ، وهم هلب ، عليهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم ، وما يتقون به الحر والبرد  
[ ص: 108 ] إذا أصابهم ، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان : إحداهما وبرة ظهرها وبطنها ، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها ، تسعانه إذا لبسهما ، يلتحف إحداهما ، ويفترش الأخرى ، ويصيف في إحداهما ، ويشتي في الأخرى ، وليس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذى يموت فيه ، ومنقطع عمره ، وذلك أنه لا يموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ، ولا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد ، فإذا كان ذلك أيقن بالموت ، وهم يرزقون التنين أيام الربيع ، ويستمطرونه إذا تحينوه كما نستمطر الغيث لحينه ، فيقذفون منه كل سنة بواحد ، فيأكلونه عامهم كله إلى مثله من العام القابل ، فيغنيهم على كثرتهم ونمائهم ، فإذا أمطروا وأخصبوا وعاشوا وسمنوا ، ورؤي أثره عليهم ، فدرت عليهم الإناث ، وشبقت منهم الرجال الذكور ، وإذا أخطأهم هزلوا وأجدبوا ، وجفرت الذكور ، وحالت الإناث ، وتبين أثر ذلك عليهم ، وهم يتداعون تداعي الحمام ، ويعوون عواء الكلاب ، ويتسافدون حيث التقوا تسافد البهائم . 
فلما عاين ذلك منهم 
ذو القرنين  انصرف إلى ما بين الصدفين ، فقاس ما بينهما وهو في منقطع أرض الترك مما يلي مشرق الشمس ، فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ ; فلما أنشأ في عمله ، حفر له أساسا حتى بلغ الماء ، ثم جعل عرضه خمسين فرسخا ، وجعل حشوه الصخور ، وطينه النحاس ، يذاب ثم يصب عليه ، فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض ، ثم علاه وشرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب ، وجعل خلاله عرقا من نحاس أصفر ، فصار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد ، فلما فرغ منه وأحكمه ، انطلق عامدا إلى جماعة الإنس والجن ، فبينا هو يسير ، دفع إلى أمة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون ، فوجد أمة مقسطة مقتصدة ، يقسمون بالسوية ، ويحكمون بالعدل ، ويتآسون ويتراحمون ، حالهم واحدة ، وكلمتهم واحدة ، وأخلاقهم مشتبهة ، وطريقتهم مستقيمة ، وقلوبهم متألفة ، وسيرتهم حسنة ، وقبورهم بأبواب بيوتهم ، وليس على بيوتهم أبواب ، وليس عليهم أمراء ، وليس بينهم قضاة ، وليس بينهم أغنياء ، ولا ملوك ، ولا أشراف ، ولا يتفاوتون ، ولا يتفاضلون ، ولا يختلفون ، ولا يتنازعون ، ولا يستبون ، ولا يقتتلون ، ولا يقحطون ، ولا يحردون ، ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس ، وهم أطول الناس أعمارا ،  
[ ص: 109 ] وليس فيهم مسكين ، ولا فقير ، ولا فظ ، ولا غليظ ، فلما رأى ذلك 
ذو القرنين  من أمرهم ، عجب منه! وقال : أخبروني ، أيها القوم خبركم ، فإني قد أحصيت الأرض كلها برها وبحرها ، وشرقها وغربها ، ونورها وظلمتها ، فلم أجد مثلكم ، فأخبروني خبركم ; قالوا : نعم ، فسلنا عما تريد ، قال : أخبروني ، ما بال قبور موتاكم على أبواب بيوتكم؟ قالوا : عمدا فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت ، ولا يخرج ذكره من قلوبنا ، قال : فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟ قالوا : ليس فينا متهم ، وليس منا إلا أمين مؤتمن ; قال : فما لكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا : لا نتظالم ، قال : فما بالكم ليس فيكم حكام؟ قالوا : لا نختصم ، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا : لا نتكاثر ; قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا : لا نتكابر ، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا : من قبل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا ; قال : فما بالكم لا تستبون ولا تقتتلون؟ قالوا : من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم ، وسسنا أنفسنا بالأحلام ، قال : فما بالكم كلمتكم واحدة ، وطريقتكم مستقيمة مستوية؟ قالوا : من قبل أنا لا نتكاذب ، ولا نتخادع ، ولا يغتاب بعضنا بعضا ; قال : فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم ، واعتدلت سيرتكم؟ قالوا : صحت صدورنا ، فنزع بذلك الغل والحسد من قلوبنا ; قال : فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا : من قبل أنا نقتسم بالسوية ; قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟ قالوا : من قبل الذل والتواضع ; قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارا؟ قالوا : من قبل أنا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل ; قال : فما بالكم لا تقحطون؟ قالوا : لا نغفل عن الاستغفار ، قال : فما بالكم لا تحردون؟ قالوا : من قبل أنا وطأنا أنفسنا للبلاء منذ كنا ، وأحببناه وحرصنا عليه ، فعرينا منه ، قال : فما بالكم لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس؟ قالوا : لا نتوكل على غير الله ، ولا نعمل بالأنواء والنجوم ، قال : حدثوني أهكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟ قالوا : نعم وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم ، ويواسون فقراءهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم ، ويحلمون عمن جهل عليهم ، ويستغفرون لمن سبهم ، ويصلون أرحامهم ، ويؤدون آماناتهم ، ويحفظون وقتهم لصلاتهم ، ويوفون بعهودهم ، ويصدقون في مواعيدهم ، ولا يرغبون عن أكفائهم ، ولا يستنكفون عن  
[ ص: 110 ] أقاربهم ، فأصلح الله لهم بذلك أمرهم ، وحفظهم ما كانوا أحياء ، وكان حقا على الله أن يحفظهم في تركتهم . 
حدثنا 
بشر ،  قال : ثنا 
يزيد ،  قال : ثنا 
سعيد ،  عن 
قتادة ،  عن 
أبي رافع ،  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ،  عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=810792إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فتحفرونه غدا ، فيعيده الله وهو كهيئته يوم تركوه ، حتى إذا جاء الوقت قال : إن شاء الله ، فيحفرونه ويخرجون على الناس ، فينشفون المياه ، ويتحصن الناس في حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء ، فيرجع فيها كهيئة الدماء ، فيقولون : قهرنا أهل الأرض ، وعلونا أهل السماء ، فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فتقتلهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم  " . 
حدثنا 
ابن حميد ،  قال : ثنا 
سلمة ،  عن 
محمد بن إسحاق ،  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=16276عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري ،  عن 
محمود بن لبيد  أخي 
بني عبد الأشهل ،  وعن 
 nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري ،  قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=810793يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال الله عز وجل ( وهم من كل حدب ينسلون  ) فيغشون الأرض ، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ، ويضمون إليهم مواشيهم ، فيشربون مياه الأرض ، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه ، حتى يتركوه يابسا ، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر ، فيقول : لقد كان هاهنا ماء مرة ، حتى لم يبق من الناس أحد إلا انحاز إلى حصن أو مدينة ، قال قائلهم : هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم ، بقي أهل السماء ، قال : ثم يهز أحدهم حربته ، ثم يرمي بها إلى السماء ، فترجع إليه مخضبة دما للبلاء والفتنة ، فبينا هم على ذلك ، بعث الله عليهم دودا في أعناقهم كالنغف ، فتخرج في أعناقهم فيصبحون موتى ، لا يسمع لهم حس ، فيقول المسلمون : ألا رجل يشري لنا نفسه ، فينظر ما فعل العدو ، قال : فيتجرد رجل منهم لذلك محتسبا لنفسه ، قد وطنها على أنه مقتول ، فينزل  [ ص: 111 ] فيجدهم موتى ، بعضهم على بعض ، فينادي : يا معشر المسلمين ، ألا أبشروا ، فإن الله قد كفاكم عدوكم ، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ، ويسرحون مواشيهم ، فما يكون لها رعي إلا لحومهم ، فتشكر عنهم أحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابت قط  " . 
حدثني 
بحر بن نصر ،  قال : أخبرنا 
ابن وهب ،  قال : ثني 
معاوية ،  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11861أبي الزاهرية  وشريح بن عبيد   : أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف : صنف طولهم كطول الأرز ، وصنف طوله وعرضه سواء ، وصنف يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى فتغطي سائر جسده  . 
حدثني 
محمد بن سعد ،  قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن 
ابن عباس   : ( 
قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض  ) قال : كان 
أبو سعيد الخدري   : يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " 
لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل  " . قال : وكان 
 nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود  يعجب من كثرتهم ويقول : لا يموت من يأجوج ومأجوج أحد حتى يولد له ألف رجل من صلبه  . 
فالخبر الذي ذكرناه عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه  في قصة 
يأجوج  ومأجوج ،  يدل على أن الذين قالوا لذي القرنين ( 
إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض  ) إنما أعلموه خوفهم ما يحدث منهم من الإفساد في الأرض ، لا أنهم شكوا منهم فسادا كان منهم فيهم أو في غيرهم . والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد في الأرض ، ولا دلالة فيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث 
 nindex.php?page=showalam&ids=15873ذي القرنين  السد الذي أحدثه بينهم وبين من دونهم من الناس في الناس غيرهم إفساد . 
فإذا كان ذلك كذلك بالذي بينا ، فالصحيح من تأويل قوله ( 
إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض  ) إن 
يأجوج  ومأجوج  سيفسدون في الأرض . 
وقوله ( 
فهل نجعل لك خرجا  ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء 
المدينة  والبصرة  وبعض أهل 
الكوفة   : ( 
فهل نجعل لك خرجا  ) كأنهم نحوا به نحو المصدر من خرج للرأس ، وذلك جعله ، وقرأته عامة قراء 
الكوفيين   [ ص: 112 ]  ( فهل نجعل لك خراجا" بالألف ، وكأنهم نحوا به نحو الاسم . وعنوا به أجرة على بنائك لنا سدا بيننا وبين هؤلاء القوم . 
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأه " فهل نجعل لك خراجا" بالألف ، لأن القوم فيما ذكر عنهم ، إنما عرضوا على 
 nindex.php?page=showalam&ids=15873ذي القرنين  أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به على بناء السد ، وقد بين ذلك بقوله : ( 
فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما  ) ولم يعرضوا عليه جزية رءوسهم . والخراج عند العرب : هو الغلة . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : حدثنا 
القاسم ،  قال : ثنا 
الحسين ،  قال : ثني 
حجاج  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ،  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني ،  عن 
ابن عباس   "فهل نجعل لك خراجا " قال : أجرا ( 
على أن تجعل بيننا وبينهم سدا  ) 
حدثنا 
الحسن بن يحيى ،  قال : أخبرنا 
عبد الرزاق ،  قال : أخبرنا 
معمر ،  عن 
قتادة ،  في قوله " فهل نجعل لك خراجا " قال : أجرا  . 
حدثنا 
القاسم ،  قال : ثنا 
الحسين ،  قال : ثنا 
أبو سفيان ،  عن 
معمر ،  عن 
قتادة ،  قوله " فهل نجعل لك خراجا" قال : أجرا  . 
وقوله : ( 
على أن تجعل بيننا وبينهم سدا  ) يقول : قالوا له : هل نجعل لك خراجا حتى أن تجعل بيننا وبين 
يأجوج  ومأجوج  حاجزا يحجز بيننا وبينهم ، ويمنعهم من الخروج إلينا . وهو السد .