1. الرئيسية
  2. تفسير الطبري
  3. تفسير سورة الكهف
  4. القول في تأويل قوله تعالى "ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا "
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ثم أتبع سببا ( 92 ) حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ( 93 ) قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ( 94 ) )

يقول تعالى ذكره : ثم سار طرقا ومنازل ، وسلك سبلا ( حتى إذا بلغ بين السدين ) .

واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين ( حتى إذا بلغ بين السدين ) بضم السين وكذلك جميع ما في القرآن من ذلك بضم السين . وكان بعض قراء المكيين يقرءونه بفتح ذلك كله . وكان أبو عمرو بن العلاء يفتح السين في هذه السورة ، ويضم السين في يس ، ويقول : السد بالفتح : هو الحاجز بينك وبين الشيء ; والسد بالضم : ما كان من غشاوة في العين . وأما الكوفيون فإن قراءة عامتهم في جميع القرآن بفتح السين غير قوله : [ ص: 102 ] ( حتى إذا بلغ بين السدين ) فإنهم ضموا السين في ذلك خاصة .

وروي عن عكرمة في ذلك ، ما حدثنا به أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن هارون ، عن أيوب ، عن عكرمة قال : ما كان من صنعة بني آدم فهو السد ، يعني بالفتح ، وما كان من صنع الله فهو السد .

وكان الكسائي يقول : هما لغتان بمعنى واحد .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، ولغتان متفقتا المعنى غير مختلفة ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، ولا معنى للفرق الذي ذكر عن أبي عمرو بن العلاء ، وعكرمة بين السد والسد ، لأنا لم نجد لذلك شاهدا يبين عن فرق ما بين ذلك على ما حكي عنهما . وما يبين ذلك أن جميع أهل التأويل الذي روي لنا عنهم في ذلك قول - لم يحك لنا عن أحد منهم تفصيل بين فتح ذلك وضمه ، ولو كانا مختلفي المعنى لنقل الفصل مع التأويل إن شاء الله . ولكن معنى ذلك كان عندهم غير مفترق ، فيفسر الحرف بغير تفصيل منهم بين ذلك . وأما ما ذكر عن عكرمة في ذلك ، فإن الذي نقل ذلك عن أيوب وهارون ، وفي نقله نظر ، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقات أصحابه . والسد والسد جميعا : الحاجز بين الشيئين ، وهما هاهنا فيما ذكر جبلان سد ما بينهما ، فردم ذو القرنين حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن وراءهم ، ليقطع ماد غوائلهم وعبثهم عنهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ( حتى إذا بلغ بين السدين ) قال : الجبلين الردم الذي بين يأجوج ومأجوج ، أمتين من وراء ردم ذي القرنين : قال : الجبلان : أرمينية وأذربيجان .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( حتى إذا بلغ بين السدين ) وهما جبلان .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( بين السدين ) يعني بين جبلين . [ ص: 103 ]

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( بين السدين ) قال : هما جبلان .

وقوله ( وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ) يقول عز ذكره : وجد من دون السدين قوما لا يكادون يفقهون قول قائل سوى كلامهم .

وقد اختلفت القراء في قراءة قوله ( يفقهون ) فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة ( يفقهون قولا ) بفتح القاف والياء ، من فقه الرجل يفقه فقها : وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة ( يفقهون قولا ) بضم الياء وكسر القاف : من أفقهت فلانا كذا أفقهه إفقاها : إذا فهمته ذلك .

والصواب عندي من القول في ذلك ، أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، غير دافعة إحداهما الأخرى ، وذلك أن القوم الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يفقهون قولا لغيرهم عنهم ، فيكون صوابا القراءة بذلك . وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك كانوا لا يكادون أن يفقهوا غيرهم لعلل : إما بألسنتهم ، وإما بمنطقهم ، فتكون القراءة بذلك أيضا صوابا .

وقوله ( إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) اختلفت القراء في قراءة قوله ( إن يأجوج ومأجوج ) فقرأت القراء من أهل الحجاز والعراق وغيرهم "إن ياجوج وماجوج " بغير همز على فاعول من يججت ومججت ، وجعلوا الألفين فيهما زائدتين ، غير عاصم بن أبي النجود والأعرج ، فإنه ذكر أنهما قرآ ذلك بالهمز فيهما جميعا ، وجعلا الهمز فيهما من أصل الكلام ، وكأنهما جعلا يأجوج : يفعول من أججت ، ومأجوج : مفعول .

والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا ، "إن ياجوج وماجوج" بألف بغير همز لإجماع الحجة من القراء عليه ، وأنه الكلام المعروف على ألسن العرب ; ومنه قول رؤبة بن العجاج .


لو أن ياجوج وماجوج معا وعاد عادوا واستجاشوا تبعا



وهم أمتان من وراء السد . [ ص: 104 ]

وقوله : ( مفسدون في الأرض ) اختلف أهل التأويل في معنى الإفساد الذي وصف الله به هاتين الأمتين ، فقال بعضهم : كانوا يأكلون الناس .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن الوليد الرملي ، قال : ثنا إبراهيم بن أيوب الخوزاني ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول في قوله ( إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) قال : كانوا يأكلون الناس .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض ، لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون .

ذكر من قال ذلك ، وذكر صفة اتباع ذي القرنين الأسباب التي ذكرها الله في هذه الآية ، وذكر سبب بنائه للردم : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب ، ممن قد أسلم ، مما توارثوا من علم ذي القرنين ، أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر اسمه مرزبا بن مردبة اليوناني ، من ولد يونان بن يافث بن نوح .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان الكلاعي ، وكان خالد رجلا قد أدرك الناس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذى القرنين فقال ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب " قال خالد : وسمع عمر بن الخطاب رجلا يقول : [ ص: 105 ] يا ذا القرنين ، فقال : اللهم غفرا ، أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء ، حتى تسموا بأسماء الملائكة؟ فإن كان رسول الله قال ذلك ، فالحق ما قال ، والباطل ما خالفه .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : فحدثني من لا أتهم عن وهب بن منبه اليماني ، وكان له علم بالأحاديث الأول ، أنه كان يقول : ذو القرنين رجل من الروم ، ابن عجوز من عجائزهم ، ليس لها ولد غيره ، وكان اسمه الإسكندر . وإنما سمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس ; فلما بلغ وكان عبدا صالحا ، قال الله عز وجل له : يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض ، وهي أمم مختلفة ألسنتهم ، وهم جميع أهل الأرض ، ومنهم أمتان بينهما طول الأرض كله ; ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كله ، وأمة في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج . فأما الأمتان اللتان بينهما طول الأرض : فأمة عند مغرب الشمس ، يقال لها : ناسك . وأما الأخرى : فعند مطلعها يقال لها : منسك . وأما اللتان بينهما عرض الأرض ، فأمة في قطر الأرض الأيمن ، يقال لها : هاويل . وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر ، فأمة يقال لها : تاويل ; فلما قال الله له ذلك ، قال له ذو القرنين : إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت ، فأخبرني عن هذه الأمم التي بعثتني إليها ، بأي قوة أكابدهم ، وبأي جمع أكاثرهم ، وبأي حيلة أكايدهم ، وبأي صبر أقاسيهم ، وبأي لسان أناطقهم ، وكيف لي بأن أفقه لغاتهم ، وبأى سمع أعي قولهم ، وبأي بصر أنفذهم ، وبأي حجة أخاصمهم ، وبأي قلب أعقل عنهم ، وبأي حكمة أدبر أمرهم ، وبأي قسط أعدل بينهم ، وبأي حلم أصابرهم ، وبأي معرفة أفصل بينهم ، وبأي علم أتقن أمورهم ، وبأي يد أسطو عليهم ، وبأي رجل أطؤهم ، وبأي طاقة أخصمهم ، وبأي جند أقاتلهم ، وبأي رفق أستألفهم ، فإنه ليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم لهم ، ولا يقوى عليهم ولا يطيقهم . وأنت الرب الرحيم . الذي لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يحملها إلا طاقتها ، ولا يعنتها ولا يفدحها ، بل أنت ترأفها وترحمها .

قال الله عز [ ص: 106 ] وجل : إني سأطوقك ما حملتك ، أشرح لك صدرك ، فيسع كل شيء وأشرح لك فهمك فتفقه كل شيء ، وأبسط لك لسانك ، فتنطق بكل شيء ، وأفتح لك سمعك فتعي كل شيء ، وأمد لك بصرك ، فتنفذ كل شيء ، وأدبر أمرك فتتقن كل شيء ، وأحصي لك فلا يفوتك شيء ، وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء ، وأشد لك ظهرك ، فلا يهدك شيء ، وأشد لك ركنك فلا يغلبك شيء ، وأشد لك قلبك فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة ، فأجعلهما جندا من جنودك ، يهديك النور أمامك ، وتحوطك الظلمة من ورائك ، وأشد لك عقلك فلا يهولك شيء ، وأبسط لك من بين يديك ، فتسطو فوق كل شيء ، وأشد لك وطأتك ، فتهد كل شيء ، وألبسك الهيبة فلا يرومك شيء .

ولما قيل له ذلك ، انطلق يؤم الأمة التي عند مغرب الشمس ، فلما بلغهم ، وجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله ، وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله ، وألسنة مختلفة وأهواء متشتتة ، وقلوبا متفرقة ، فلما رأى ذلك كاثرهم بالظلمة ، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها ، فأحاطتهم من كل مكان ، وحاشتهم حتى جمعتهم في مكان واحد ، ثم أخذ عليهم بالنور ، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته ، فمنهم من آمن له ، ومنهم من صد ، فعمد إلى الذين تولوا عنه . فأدخل عليهم الظلمة . فدخلت في أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم ، ودخلت في بيوتهم ودورهم ، وغشيتهم من فوقهم ، ومن تحتهم ومن كل جانب منهم ، فماجوا فيها وتحيروا ، فلما أشفقوا أن يهلكوا فيها عجوا إليه بصوت واحد ، فكشفها عنهم وأخذهم عنوة ، فدخلوا في دعوته ، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة ، فجعلهم جندا واحدا ، ثم انطلق بهم يقودهم ، والظلمة تسوقهم من خلفهم وتحرسهم من حولهم ، والنور أمامهم يقودهم ويدلهم ، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى ، وهو يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها هاويل . وسخر الله له يده وقلبه ورأيه وعقله ونظره وائتماره ، فلا يخطئ إذا ائتمر ، وإذا عمل عملا أتقنه . فانطلق يقود تلك الأمم وهي تتبعه ، فإذا انتهى إلى بحر أو مخاضة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال النعال ، فنظمها في ساعة ، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم وتلك الجنود ، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها ، ثم دفع إلى كل إنسان لوحا فلا يكرثه حمله ، [ ص: 107 ] فلم يزل كذلك دأبه حتى انتهى إلى هاويل ، فعمل فيها كعمله في ناسك . فلما فرغ منها مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس ، فعمل فيها وجند منها جنودا ، كفعله في الأمتين اللتين قبلها ، ثم كر مقبلا في ناحية الأرض اليسرى ، وهو يريد تاويل وهي الأمة التي بحيال هاويل ، وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض كله ; فلما بلغها عمل فيها ، وجند منها كفعله فيما قبلها ، فلما فرغ منها عطف منها إلى الأمم التي وسط الأرض من الجن وسائر الناس ، ويأجوج ومأجوج ، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك نحو المشرق ، قالت له أمة من الإنس صالحة : يا ذا القرنين ، إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله ، وكثير منهم مشابه للإنس ، وهم أشباه البهائم ، يأكلون العشب ، ويفترسون الدواب والوحوش كما تفترسها السباع ، ويأكلون خشاش الأرض كلها من الحيات والعقارب ، وكل ذي روح مما خلق الله في الأرض ، وليس لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد ، ولا يزداد كزيادتهم ، ولا يكثر ككثرتهم ، فإن كانت لهم مدة على ما نرى من نمائهم وزيادتهم ، فلا شك أنهم سيملئون الأرض ، ويجلون أهلها عنها ويظهرون عليها فيفسدون فيها ، وليست تمر بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونحن نتوقعهم ، وننتظر أن يطلع علينا أوائلهم من بين هذين الجبلين ( فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ) أعدوا إلي الصخور والحديد والنحاس حتى أرتاد بلادهم ، وأعلم علمهم ، وأقيس ما بين جبليهم .

ثم انطلق يؤمهم حتى دفع إليهم وتوسط بلادهم ، فوجدهم على مقدار واحد ، ذكرهم وأنثاهم ، مبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا ، لهم مخالب في موضع الأظفار من أيدينا ، وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها . وأحناك كأحناك الإبل ، قوة تسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الجرة من الإبل ، أو كقضم الفحل المسن ، أو الفرس القوي ، وهم هلب ، عليهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم ، وما يتقون به الحر والبرد [ ص: 108 ] إذا أصابهم ، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان : إحداهما وبرة ظهرها وبطنها ، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها ، تسعانه إذا لبسهما ، يلتحف إحداهما ، ويفترش الأخرى ، ويصيف في إحداهما ، ويشتي في الأخرى ، وليس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذى يموت فيه ، ومنقطع عمره ، وذلك أنه لا يموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ، ولا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد ، فإذا كان ذلك أيقن بالموت ، وهم يرزقون التنين أيام الربيع ، ويستمطرونه إذا تحينوه كما نستمطر الغيث لحينه ، فيقذفون منه كل سنة بواحد ، فيأكلونه عامهم كله إلى مثله من العام القابل ، فيغنيهم على كثرتهم ونمائهم ، فإذا أمطروا وأخصبوا وعاشوا وسمنوا ، ورؤي أثره عليهم ، فدرت عليهم الإناث ، وشبقت منهم الرجال الذكور ، وإذا أخطأهم هزلوا وأجدبوا ، وجفرت الذكور ، وحالت الإناث ، وتبين أثر ذلك عليهم ، وهم يتداعون تداعي الحمام ، ويعوون عواء الكلاب ، ويتسافدون حيث التقوا تسافد البهائم .

فلما عاين ذلك منهم ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين ، فقاس ما بينهما وهو في منقطع أرض الترك مما يلي مشرق الشمس ، فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ ; فلما أنشأ في عمله ، حفر له أساسا حتى بلغ الماء ، ثم جعل عرضه خمسين فرسخا ، وجعل حشوه الصخور ، وطينه النحاس ، يذاب ثم يصب عليه ، فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض ، ثم علاه وشرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب ، وجعل خلاله عرقا من نحاس أصفر ، فصار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد ، فلما فرغ منه وأحكمه ، انطلق عامدا إلى جماعة الإنس والجن ، فبينا هو يسير ، دفع إلى أمة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون ، فوجد أمة مقسطة مقتصدة ، يقسمون بالسوية ، ويحكمون بالعدل ، ويتآسون ويتراحمون ، حالهم واحدة ، وكلمتهم واحدة ، وأخلاقهم مشتبهة ، وطريقتهم مستقيمة ، وقلوبهم متألفة ، وسيرتهم حسنة ، وقبورهم بأبواب بيوتهم ، وليس على بيوتهم أبواب ، وليس عليهم أمراء ، وليس بينهم قضاة ، وليس بينهم أغنياء ، ولا ملوك ، ولا أشراف ، ولا يتفاوتون ، ولا يتفاضلون ، ولا يختلفون ، ولا يتنازعون ، ولا يستبون ، ولا يقتتلون ، ولا يقحطون ، ولا يحردون ، ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس ، وهم أطول الناس أعمارا ، [ ص: 109 ] وليس فيهم مسكين ، ولا فقير ، ولا فظ ، ولا غليظ ، فلما رأى ذلك ذو القرنين من أمرهم ، عجب منه! وقال : أخبروني ، أيها القوم خبركم ، فإني قد أحصيت الأرض كلها برها وبحرها ، وشرقها وغربها ، ونورها وظلمتها ، فلم أجد مثلكم ، فأخبروني خبركم ; قالوا : نعم ، فسلنا عما تريد ، قال : أخبروني ، ما بال قبور موتاكم على أبواب بيوتكم؟ قالوا : عمدا فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت ، ولا يخرج ذكره من قلوبنا ، قال : فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟ قالوا : ليس فينا متهم ، وليس منا إلا أمين مؤتمن ; قال : فما لكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا : لا نتظالم ، قال : فما بالكم ليس فيكم حكام؟ قالوا : لا نختصم ، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا : لا نتكاثر ; قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا : لا نتكابر ، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا : من قبل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا ; قال : فما بالكم لا تستبون ولا تقتتلون؟ قالوا : من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم ، وسسنا أنفسنا بالأحلام ، قال : فما بالكم كلمتكم واحدة ، وطريقتكم مستقيمة مستوية؟ قالوا : من قبل أنا لا نتكاذب ، ولا نتخادع ، ولا يغتاب بعضنا بعضا ; قال : فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم ، واعتدلت سيرتكم؟ قالوا : صحت صدورنا ، فنزع بذلك الغل والحسد من قلوبنا ; قال : فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا : من قبل أنا نقتسم بالسوية ; قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟ قالوا : من قبل الذل والتواضع ; قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارا؟ قالوا : من قبل أنا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل ; قال : فما بالكم لا تقحطون؟ قالوا : لا نغفل عن الاستغفار ، قال : فما بالكم لا تحردون؟ قالوا : من قبل أنا وطأنا أنفسنا للبلاء منذ كنا ، وأحببناه وحرصنا عليه ، فعرينا منه ، قال : فما بالكم لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس؟ قالوا : لا نتوكل على غير الله ، ولا نعمل بالأنواء والنجوم ، قال : حدثوني أهكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟ قالوا : نعم وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم ، ويواسون فقراءهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم ، ويحلمون عمن جهل عليهم ، ويستغفرون لمن سبهم ، ويصلون أرحامهم ، ويؤدون آماناتهم ، ويحفظون وقتهم لصلاتهم ، ويوفون بعهودهم ، ويصدقون في مواعيدهم ، ولا يرغبون عن أكفائهم ، ولا يستنكفون عن [ ص: 110 ] أقاربهم ، فأصلح الله لهم بذلك أمرهم ، وحفظهم ما كانوا أحياء ، وكان حقا على الله أن يحفظهم في تركتهم .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فتحفرونه غدا ، فيعيده الله وهو كهيئته يوم تركوه ، حتى إذا جاء الوقت قال : إن شاء الله ، فيحفرونه ويخرجون على الناس ، فينشفون المياه ، ويتحصن الناس في حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء ، فيرجع فيها كهيئة الدماء ، فيقولون : قهرنا أهل الأرض ، وعلونا أهل السماء ، فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فتقتلهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم " .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري ، عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل ، وعن أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال الله عز وجل ( وهم من كل حدب ينسلون ) فيغشون الأرض ، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ، ويضمون إليهم مواشيهم ، فيشربون مياه الأرض ، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه ، حتى يتركوه يابسا ، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر ، فيقول : لقد كان هاهنا ماء مرة ، حتى لم يبق من الناس أحد إلا انحاز إلى حصن أو مدينة ، قال قائلهم : هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم ، بقي أهل السماء ، قال : ثم يهز أحدهم حربته ، ثم يرمي بها إلى السماء ، فترجع إليه مخضبة دما للبلاء والفتنة ، فبينا هم على ذلك ، بعث الله عليهم دودا في أعناقهم كالنغف ، فتخرج في أعناقهم فيصبحون موتى ، لا يسمع لهم حس ، فيقول المسلمون : ألا رجل يشري لنا نفسه ، فينظر ما فعل العدو ، قال : فيتجرد رجل منهم لذلك محتسبا لنفسه ، قد وطنها على أنه مقتول ، فينزل [ ص: 111 ] فيجدهم موتى ، بعضهم على بعض ، فينادي : يا معشر المسلمين ، ألا أبشروا ، فإن الله قد كفاكم عدوكم ، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ، ويسرحون مواشيهم ، فما يكون لها رعي إلا لحومهم ، فتشكر عنهم أحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابت قط " .

حدثني بحر بن نصر ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني معاوية ، عن أبي الزاهرية وشريح بن عبيد : أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف : صنف طولهم كطول الأرز ، وصنف طوله وعرضه سواء ، وصنف يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى فتغطي سائر جسده .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) قال : كان أبو سعيد الخدري : يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل " . قال : وكان عبد الله بن مسعود يعجب من كثرتهم ويقول : لا يموت من يأجوج ومأجوج أحد حتى يولد له ألف رجل من صلبه .

فالخبر الذي ذكرناه عن وهب بن منبه في قصة يأجوج ومأجوج ، يدل على أن الذين قالوا لذي القرنين ( إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) إنما أعلموه خوفهم ما يحدث منهم من الإفساد في الأرض ، لا أنهم شكوا منهم فسادا كان منهم فيهم أو في غيرهم . والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد في الأرض ، ولا دلالة فيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنين السد الذي أحدثه بينهم وبين من دونهم من الناس في الناس غيرهم إفساد .

فإذا كان ذلك كذلك بالذي بينا ، فالصحيح من تأويل قوله ( إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض .

وقوله ( فهل نجعل لك خرجا ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة : ( فهل نجعل لك خرجا ) كأنهم نحوا به نحو المصدر من خرج للرأس ، وذلك جعله ، وقرأته عامة قراء الكوفيين [ ص: 112 ] ( فهل نجعل لك خراجا" بالألف ، وكأنهم نحوا به نحو الاسم . وعنوا به أجرة على بنائك لنا سدا بيننا وبين هؤلاء القوم .

وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأه " فهل نجعل لك خراجا" بالألف ، لأن القوم فيما ذكر عنهم ، إنما عرضوا على ذي القرنين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به على بناء السد ، وقد بين ذلك بقوله : ( فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ) ولم يعرضوا عليه جزية رءوسهم . والخراج عند العرب : هو الغلة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس "فهل نجعل لك خراجا " قال : أجرا ( على أن تجعل بيننا وبينهم سدا )

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله " فهل نجعل لك خراجا " قال : أجرا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله " فهل نجعل لك خراجا" قال : أجرا .

وقوله : ( على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ) يقول : قالوا له : هل نجعل لك خراجا حتى أن تجعل بيننا وبين يأجوج ومأجوج حاجزا يحجز بيننا وبينهم ، ويمنعهم من الخروج إلينا . وهو السد .

التالي السابق


الخدمات العلمية