صفحة جزء
القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله )

قال أبو جعفر : أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل ، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ، وأن ميكائيل ولي لهم ، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك . فقال بعضهم : إنما كان سبب قيلهم ذلك ، من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته .

ذكر من قال ذلك :

1605 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس أنه قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك عنهن ، لا يعلمهن إلا نبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلوا عما شئتم ، ولكن اجعلوا لي ذمة الله ، وما أخذ يعقوب على بنيه ، لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه ، لتتابعني على الإسلام ، فقالوا : ذلك لك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلوني عما شئتم . فقالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن : أخبرنا ، أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا [ ص: 378 ] كيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني! فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق . فقال : "نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه ، فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل - قال أبو جعفر : فيما أروي : وأحب الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا : اللهم نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد الله عليكم وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله ، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله؟ قالوا : اللهم نعم . قال : اللهم اشهد! قال : وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا : اللهم نعم! قال : اللهم اشهد! قالوا : أنت الآن تحدثنا من وليك من الملائكة ، فعندها نتابعك أو نفارقك ، قال : فإن وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه . قالوا : فعندها نفارقك ، لو كان وليك سواه من الملائكة ، تابعناك وصدقناك . قال : "فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا : إنه عدونا . فأنزل الله عز وجل : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) إلى قوله ( كأنهم لا يعلمون ) ، فعندها باءوا بغضب على غضب . [ ص: 379 ]

1606 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين - يعني المكي - ، عن شهر بن حوشب الأشعري : أن نفرا من اليهود جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد ، أخبرنا عن أربع نسألك عنهن ، فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ، لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني؟ قالوا : نعم . قال : فاسألوا عما بدا لكم . فقالوا : أخبرنا كيف يشبه الولد أمه ، وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة ، ونطفة المرأة صفراء رقيقة ، فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه؟ قالوا : نعم . قالوا : فأخبرنا كيف نومك؟ قال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ [ ص: 380 ] قالوا : اللهم نعم . قال : اللهم اشهد! قالوا : أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ قال : هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها ، وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها ، فحرم أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله ، فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا : اللهم نعم . قالوا : فأخبرنا عن الروح . قال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أنه جبريل ، وهو الذي يأتيني؟ قالوا : نعم ، ولكنه لنا عدو ، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء ، فلولا ذلك اتبعناك . فأنزل الله فيهم : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك ) إلى قوله ( كأنهم لا يعلمون ) .

1607 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : حدثني القاسم بن أبي بزة : أن يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم : من صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي؟ فقال : جبريل . قالوا : فإنه لنا عدو ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال! فنزل : ( من كان عدوا لجبريل ) الآية . قال ابن جريج : وقال مجاهد : قالت يهود : يا محمد ، ما ينزل جبريل إلا بشدة وحرب! وقالوا : إنه لنا عدو! فنزل : ( من كان عدوا لجبريل ) الآية .

وقال آخرون : بل كان سبب قيلهم ذلك ، من أجل مناظرة جرت بين [ ص: 381 ] عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهم ، في أمر النبي صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك :

1608 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثنا ربعي بن علية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : نزل عمر الروحاء ، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها ، فقال : ما هؤلاء؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا . فكره ذلك وقال : أيما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى ، ثم ارتحل فتركه! ثم أنشأ يحدثهم فقال : كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان ، ومن الفرقان كيف يصدق التوراة! فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا : يا ابن الخطاب ، ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك ، قلت : ولم ذلك؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال : قلت : إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان! قال : ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا ابن الخطاب ، ذاك صاحبكم فالحق به . قال : فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله؟ قال : فسكتوا ، قال : فقال عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظم عليكم فأجيبوه . قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ، فأجبه أنت . قال : أما إذ نشدتنا به ، فإنا نعلم أنه رسول الله . قال : قلت : ويحكم! إذا هلكتم! قالوا إنا لم نهلك . قال : قلت : كيف ذاك ، وأنتم تعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه؟ [ ص: 382 ] قالوا : إن لدينا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة ، وإنه قرن به عدونا من الملائكة . قال : قلت : ومن عدوكم؟ ومن سلمكم؟ قالوا : عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل . قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا ، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا . قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا : أحدهما عن يمينه ، والآخر عن يساره . قال : قلت : فوالله الذي لا إله إلا هو ، إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما ، وسلم لمن سالمهما ، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل ، ولا لميكائيل أن يسالم عدو جبريل ! قال : ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم ، فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان ، فقال لي : يا ابن الخطاب ، ألا أقرئك آيات نزلن؟ فقرأ علي : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه ) حتى قرأ الآيات . قال : قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر ، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر ! [ ص: 383 ]

1609 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي قال : قال عمر : كنت رجلا أغشى اليهود في يوم مدراسهم ، ثم ذكر نحو حديث ربعي .

1610 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود ، فلما أبصروه رحبوا به . فقال لهم عمر : أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم ، ولكن جئت لأسمع منكم ، فسألهم وسألوه ، فقالوا : من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم : جبريل . فقالوا : ذاك عدونا من أهل السماء ، يطلع محمدا على سرنا ، وإذا جاء جاء بالحرب والسنة ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل ، وكان إذا جاء جاء بالخصب وبالسلم ، فقال لهم عمر : أفتعرفون جبريل وتنكرون محمدا؟ ففارقهم عمر عند ذلك ، وتوجه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم ، فوجده قد أنزل عليه هذه الآية : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) .

1611 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن قتادة قال : بلغنا أن عمر بن الخطاب أقبل على اليهود يوما ، فذكر نحوه .

1612 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( من كان عدوا لجبريل ) ، قال : قالت اليهود : [ ص: 384 ] إن جبريل هو عدونا؛ لأنه ينزل بالشدة والحرب والسنة ، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب ، فجبريل عدونا . فقال الله جل ثناؤه : ( من كان عدوا لجبريل ) .

1613 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه ) ، قال : كان لعمر بن الخطاب أرض بأعلى المدينة ، فكان يأتيها ، وكان ممره على طريق مدراس اليهود ، وكان كلما دخل عليهم سمع منهم . وإنه دخل عليهم ذات يوم فقالوا : يا عمر ما في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد أحب إلينا منك ، إنهم يمرون بنا فيؤذوننا ، وتمر بنا فلا تؤذينا ، وإنا لنطمع فيك ، فقال لهم عمر : أي يمين فيكم أعظم؟ قالوا : الرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء . فقال لهم عمر : فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء ، أتجدون محمدا صلى الله عليه وسلم عندكم؟ فأسكتوا ، فقال : تكلموا ، ما شأنكم؟ فوالله ما سألتكم وأنا شاك في شيء من ديني . فنظر بعضهم إلى بعض ، فقام رجل منهم فقال : أخبروا الرجل ، لتخبرنه أو لأخبرنه ، قالوا : نعم ، إنا نجده مكتوبا عندنا ، ولكن صاحبه من الملائكة الذي يأتيه بالوحي هو جبريل ، وجبريل عدونا ، وهو صاحب كل عذاب أو قتال أو خسف ، ولو أنه كان وليه ميكائيل ، إذا لآمنا به ، فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل غيث . فقال لهم عمر : فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء ، أين مكان جبريل من الله؟ قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره . قال عمر : فأشهدكم أن الذي هو عدو للذي عن يمينه ، عدو للذي هو عن يساره; والذي هو عدو للذي هو عن يساره; عدو للذي هو عن يمينه; وأنه من كان عدوهما ، فإنه عدو لله . ثم رجع عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 385 ] فوجد جبريل قد سبقه بالوحي ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه ، فقال عمر : والذي بعثك بالحق ، لقد جئتك وما أريد إلا أن أخبرك !

1614 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج الرازي قال : حدثنا عبد الرحمن بن مغراء أبو زهير ، عن مجالد ، عن الشعبي قال : انطلق عمر إلى يهود فقال : إني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتابكم؟ قالوا : نعم . قال : فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا : إن الله لم يبعث رسولا إلا كان له كفل من الملائكة ، وإن جبريل هو الذي يتكفل لمحمد ، وهو عدونا من الملائكة ، وميكائيل سلمنا ، فلو كان هو الذي يأتيه اتبعناه . قال : فإني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، ما منزلتهما من رب العالمين؟ قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن جانبه الآخر . فقال : إني أشهد ما يقولان إلا بإذن الله ، وما كان لميكائيل أن يعادي سلم جبريل ، وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل . [ فبينما هو عندهم ] ، إذ مر نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : هذا صاحبك يا ابن الخطاب . فقام إليه ، فأتاه وقد أنزل عليه : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) إلى قوله : ( فإن الله عدو للكافرين ) . [ ص: 386 ]

1615 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا حصين بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي ليلى في قوله : ( من كان عدوا لجبريل ) . قال : قالت اليهود للمسلمين : لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم لتبعناكم ، فإنه ينزل بالرحمة والغيث ، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة ، وهو لنا عدو ، قال : فنزلت هذه الآية : ( من كان عدوا لجبريل ) .

1616 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء بنحو ذلك .

قال أبو جعفر : وأما تأويل الآية - أعني قوله : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) - فهو : أن الله يقول لنبيه : قل يا محمد - لمعاشر اليهود من بني إسرائيل ، الذين زعموا أن جبريل لهم عدو ، من أجل أنه صاحب سطوات وعذاب وعقوبات ، لا صاحب وحي وتنزيل ورحمة؛ فأبوا اتباعك ، وجحدوا نبوتك ، وأنكروا ما جئتهم به من آياتي وبينات حكمي ، من أجل أن جبريل وليك وصاحب وحيي إليك ، وزعموا أنه عدو لهم - : من يكن من الناس [ ص: 387 ] لجبريل عدوا ، ومنكرا أن يكون صاحب وحي الله إلى أنبيائه ، وصاحب رحمته ، فإني له ولي وخليل ، ومقر بأنه صاحب وحي إلى أنبيائه ورسله ، وأنه هو الذي ينزل وحي الله على قلبي من عند ربي ، بإذن ربي له بذلك ، يربط به على قلبي ، ويشد فؤادي ، كما : -

1617 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( قل من كان عدوا لجبريل ) ، قال : وذلك أن اليهود قالت - حين سألت محمدا صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة ، فأخبرهم بها على ما هي عندهم - "إلا جبريل " ، فإن جبريل كان عند اليهود صاحب عذاب وسطوة ، ولم يكن عندهم صاحب وحي - يعني : تنزيل من الله على رسله - ولا صاحب رحمة ، فأخبرهم - رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما سألوه عنه : أن جبريل صاحب وحي الله ، وصاحب نقمته ، وصاحب رحمته ، فقالوا : ليس بصاحب وحي ولا رحمة ، هو لنا عدو! فأنزل الله عز وجل إكذابا لهم : ( قل ) يا محمد : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك ) ، يقول : فإن جبريل نزله . يقول : نزل القرآن - بأمر الله يشد به فؤادك ، ويربط به على قلبك" ، يعني : بوحينا الذي نزل به جبريل عليك من عند الله - وكذلك يفعل بالمرسلين والأنبياء من قبلك .

1618 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) ، يقول : أنزل الكتاب على قلبك بإذن الله .

1619 - وحدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( فإنه نزله على قلبك ) ، يقول : نزل الكتاب على قلبك جبريل .

قال أبو جعفر : وإنما قال جل ثناؤه : ( فإنه نزله على قلبك ) - وهو يعني [ ص: 388 ] بذلك قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أمر محمدا في أول الآية أن يخبر اليهود بذلك عن نفسه - ولم يقل : فإنه نزله على قلبي ولو قيل : "على قلبي" كان صوابا من القول؛ لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلا أن يحكي ما قيل له عن نفسه ، أن تخرج فعل المأمور مرة مضافا إلى كناية نفس المخبر عن نفسه ، إذ كان المخبر عن نفسه; ومرة مضافا إلى اسمه ، كهيئة كناية اسم المخاطب لأنه به مخاطب . فتقول في نظير ذلك : "قل للقوم إن الخير عندي كثير" - فتخرج كناية اسم المخبر عن نفسه؛ لأنه المأمور أن يخبر بذلك عن نفسه - : و"قل للقوم إن الخير عندك كثير" - فتخرج كناية اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب؛ لأنه وإن كان مأمورا بقيل ذلك ، فهو مخاطب مأمور بحكاية ما قيل له . وكذلك : "لا تقل للقوم : إني قائم" ، و"لا تقل لهم : إنك قائم" ، و"الياء" من "إني" اسم المأمور بقول ذلك ، على ما وصفنا . ومن ذلك قول الله عز وجل : ( قل للذين كفروا سيغلبون ) و ( تغلبون ) [ آل عمران : 12 ] ، بالياء والتاء .

وأما" جبريل " فإن للعرب فيه لغات . فأما أهل الحجاز فإنهم يقولون : "جبريل ، وميكال" بغير همز ، بكسر الجيم والراء من" جبريل " وبالتخفيف ، وعلى القراءة بذلك عامة قرأة أهل المدينة والبصرة .

أما تميم وقيس وبعض نجد فيقولون : "جبرئيل وميكائيل" على مثال "جبرعيل وميكاعيل" ، بفتح الجيم والراء ، وبهمز ، وزيادة ياء بعد الهمزة ، وعلى القراءة بذلك عامة قرأة أهل الكوفة ، كما قال جرير بن عطية :


عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد وبجبرئيل وكذبوا ميكالا

[ ص: 389 ]

وقد ذكر عن الحسن البصري وعبد الله بن كثير أنهما كانا يقرآن : " جبريل " بفتح الجيم ، وترك الهمز .

قال أبو جعفر : وهي قراءة غير جائزة القراءة بها؛ لأن "فعليل" في كلام العرب غير موجود . وقد اختار ذلك بعضهم ، وزعم أنه اسم أعجمي ، كما يقال : "سمويل" ، وأنشد في ذلك :


بحيث لو وزنت لخم بأجمعها     ما وازنت ريشة من ريش سمويلا



وأما بنو أسد فإنها تقول : "جبرين" بالنون . وقد حكي عن بعض العرب أنها تزيد في" جبريل " "ألفا" فتقول : جبراييل وميكاييل .

وقد حكي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ : "جبرئل" بفتح الجيم ، والهمز ، وترك المد ، وتشديد اللام .

فأما "جبر" و"ميك" ، فإنهما الاسمان اللذان أحدهما بمعنى : "عبد" ، والآخر بمعنى : "عبيد" . [ ص: 390 ]

وأما "إيل" فهو الله تعالى ذكره ، كما : -

1620 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جرير بن نوح الحماني ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : " جبريل " و" ميكائيل " ، كقولك : عبد الله .

1621 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : "جبريل" عبد الله; و"ميكائيل" ، عبيد الله . وكل اسم "إيل" فهو : الله .

1622 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس : أن "إسرائيل ، وميكائيل وجبريل ، وإسرافيل " كقولك : عبد الله .

1623 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث قال : "إيل" ، الله ، بالعبرانية .

1624 - حدثنا الحسين بن يزيد الضحاك قال : حدثنا إسحاق بن منصور قال : حدثنا قيس ، عن عاصم ، عن عكرمة ، قال : " جبريل " اسمه : عبد الله; و" ميكائيل " اسمه : عبيد الله ، "إيل" : الله .

1625 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن علي بن حسين قال : اسم" جبريل " عبد الله ، واسم" ميكائيل " عبيد الله ، واسم" إسرافيل " : عبد الرحمن ، وكل معبد : "إيل" ، فهو عبد الله .

1626 - حدثنا المثنى قال : حدثنا قبيصة بن عقبة قال : حدثنا سفيان ، عن [ ص: 391 ] محمد المدني - قال المثنى : قال قبيصة : أراه محمد بن إسحاق - عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن علي بن حسين ، قال : ما تعدون" جبريل " في أسمائكم؟ قال : " جبريل " عبد الله ، و" ميكائيل " عبيد الله ، وكل اسم فيه "إيل" ، فهو معبد لله .

1627 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن علي بن حسين قال : قال لي : هل تدري ما اسم " جبريل " من أسمائكم؟ قلت : لا . قال : عبد الله . قال : فهل تدري ما اسم " ميكائيل " من أسمائكم؟ قلت : لا . قال : عبيد الله . وقد سمى لي "إسرائيل" باسم نحو ذلك فنسيته ، إلا أنه قد قال لي : أرأيت ، كل اسم يرجع إلى "إيل" فهو معبد له .

1628 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة في قوله : ( جبريل ) قال : "جبر" عبد ، "إيل" الله ، و"ميكا" قال : عبد ، "إيل" : الله .

قال أبو جعفر : فهذا تأويل من قرأ" جبرائيل " بالفتح ، والهمز ، والمد . وهو - إن شاء الله - معنى من قرأ بالكسر ، وترك الهمز .

وأما تأويل من قرأ ذلك بالهمز ، وترك المد ، وتشديد اللام ، فإنه قصد بقوله ذلك كذلك ، إلى إضافة "جبر" و"ميكا" إلى اسم الله الذي يسمى به بلسان العرب دون السرياني والعبراني ، وذلك أن "الإل" بلسان العرب : الله ، كما قال : ( لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) [ التوبة : 10 ] . فقال جماعة من أهل العلم : "الإل" هو الله . ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه - لوفد بني حنيفة ، حين سألهم عما كان مسيلمة يقول ، فأخبروه - فقال لهم : ويحكم! " [ ص: 392 ] أين ذهب بكم؟ والله ، إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر . يعني "من إل" : من الله وقد : -

1629 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : ( لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) قال : قول " جبريل " و"ميكائيل" و"إسرافيل" .

كأنه يقول : حين يضيف "جبر" و"ميكا" و"إسرا" إلى "إيل" يقول : عبد الله . ( لا يرقبون في مؤمن إلا ) ، كأنه يقول : لا يرقبون الله عز وجل .

التالي السابق


الخدمات العلمية