صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى ( 77 ) )

يقول تعالى ذكره ( ولقد أوحينا إلى ) نبينا ( موسى ) إذ تابعنا له الحجج على فرعون فأبى أن يستجيب لأمر ربه ، وطغى وتمادى في طغيانه ( أن أسر ) ليلا ( بعبادي ) يعني بعبادي من بني إسرائيل .

( فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ) يقول : فاتخذ لهم في البحر طريقا يابسا ، واليبس واليبس : يجمع " أيباس " ، تقول : وقفوا في أيباس من الأرض ، واليبس المخفف يجمع " يبوس " .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله ( يبسا ) قال : يابسا .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مثله .

وأما قوله ( لا تخاف دركا ولا تخشى ) فإنه يعني : لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك ، ولا تخشى غرقا من بين يديك ووحلا .

[ ص: 344 ] وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله ( لا تخاف دركا ولا تخشى ) يقول : ( لا تخاف ) من آل فرعون ( دركا ولا تخشى ) من البحر غرقا .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة ( لا تخاف دركا ولا تخشى ) يقول : لا تخاف أن يدركك فرعون من بعدك ولا تخشى الغرق أمامك .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج قال : قال ابن جريج : قال أصحاب موسى : هذا فرعون قد أدركنا ، وهذا البحر قد غشينا ، فأنزل الله ( لا تخاف دركا ) أصحاب فرعون ( ولا تخشى ) من البحر وحلا .

حدثني أحمد بن الوليد الرملي قال : ثنا عمرو بن عون قال : ثنا هشيم عن بعض أصحابه ، في قوله ( لا تخاف دركا ولا تخشى ) قال : الوحل .

واختلفت القراء في قراءة قوله ( لا تخاف دركا ) فقرأته عامة قراء الأمصار غير الأعمش وحمزة : ( لا تخاف دركا ) على الاستئناف بلا كما قال : ( واصطبر عليها لا نسألك رزقا ) فرفع ، وأكثر ما جاء في هذا الأمر الجواب مع " لا " . وقرأ ذلك الأعمش وحمزة ( لا تخف دركا ) فجزما لا تخاف على الجزاء ، ورفعا ( ولا تخشى ) على الاستئناف ، كما قال جل ثناؤه ( يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ) فاستأنف ب " ثم " ، ولو نوى بقوله : ( ولا تخشى ) الجزم ، وفيه الياء ، كان جائزا ، كما قال الراجز :


هزي إليك الجذع يجنيك الجنى



وأعجب القراءتين إلي أن أقرأ بها ( لا تخاف ) على وجه الرفع ، لأن ذلك أفصح اللغتين ، وإن كانت الأخرى جائزة ، وكان بعض نحويي البصرة يقول : معنى قوله ( لا تخاف دركا ) اضرب لهم طريقا لا تخاف فيه دركا ، قال : وحذف فيه ، كما تقول : زيد أكرمت ، وأنت تريد أكرمته ، وكما تقول ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) أي لا تجزى فيه ، وأما نحويو الكوفة فإنهم [ ص: 345 ] ينكرون حذف فيه إلا في المواقيت ، لأنه يصلح فيها أن يقال : قمت اليوم وفي اليوم ، ولا يجيزون ذلك في الأسماء .

التالي السابق


الخدمات العلمية