صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ( 44 ) ) [ ص: 34 ]

يقول تعالى ذكره : ( ثم أرسلنا ) إلى الأمم التي أنشأنا بعد ثمود ( رسلنا تترى ) يعني : يتبع بعضها بعضا ، وبعضها في أثر بعض ، وهي من المواترة ، وهي اسم لجمع مثل شيء ، لا يقال : جاءني فلان تترى ، كما لا يقال : جاءني فلان مواترة ، وهي تنون ولا تنون ، وفيها الياء ، فمن لم ينونها ( فعلى ) من وترت ومن قال : " تترا " يوهم أن الياء أصلية ، كما قيل : معزى بالياء ، ومعزا ، وبهمى بهما ، ونحو ذلك ، فأجريت أحيانا وترك إجراؤها أحيانا ، فمن جعلها ( فعلى ) وقف عليها أشار إلى الكسر ، ومن جعلها ألف إعراب لم يشر ; لأن ألف الإعراب لا تكسر ، لا يقال : رأيت زيدا ، فيشار فيه إلى الكسر .

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( ثم أرسلنا رسلنا تترى ) يقول : يتبع بعضها بعضا .

حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( ثم أرسلنا رسلنا تترى ) يقول : بعضها على أثر بعض .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( تترى ) قال : اتباع بعضها بعضا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( ثم أرسلنا رسلنا تترى ) قال : يتبع بعضها بعضا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( ثم أرسلنا رسلنا تترى ) قال : بعضهم على أثر بعض ، يتبع بعضهم بعضا .

واختلفت قراء الأمصار في قراءة ذلك ، فقرأ ذلك بعض قراء أهل مكة ، وبعض أهل المدينة ، وبعض أهل البصرة ( تترا ) بالتنوين . وكان بعض أهل مكة ، وبعض أهل المدينة ، وعامة قراء الكوفة يقرءونه : ( تترى ) بإرسال الياء على مثال ( فعلى ) ، والقول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان ، ولغتان معروفتان في كلام العرب ، بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، غير أني مع ذلك أختار القراءة بغير تنوين ; لأنها أفصح [ ص: 35 ] اللغتين وأشهرهما .

وقوله : ( كل ما جاء أمة رسولها كذبوه ) يقول : كلما جاء أمة من تلك الأمم ، التي أنشأناها بعد ثمود ، رسولها الذي نرسله إليهم ، كذبوه فيما جاءهم به من الحق من عندنا . وقوله : ( فأتبعنا بعضهم بعضا ) يقول : فأتبعنا بعض تلك الأمم بعضا بالهلاك ، فأهلكنا بعضهم في إثر بعض . وقوله : ( وجعلناهم أحاديث ) للناس ، ومثلا يتحدث بهم في الناس ، والأحاديث في هذا الموضع جمع أحدوثة ، لأن المعنى ما وصفت من أنهم جعلوا للناس مثلا يتحدث بهم ، وقد يجوز أن يكون جمع حديث ، وإنما قيل : ( وجعلناهم أحاديث ) لأنهم جعلوا حديثا ، ومثلا يتمثل بهم في الشر ، ولا يقال في الخير : جعلته حديثا ، ولا أحدوثة . وقوله : ( فبعدا لقوم لا يؤمنون ) يقول : فأبعد الله قوما لا يؤمنون بالله ، ولا يصدقون برسوله .

التالي السابق


الخدمات العلمية