صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ( 68 ) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ( 69 ) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ( 70 ) ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ( 71 ) ) [ ص: 303 ]

يقول تعالى ذكره : والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر ، فيشركون في عبادتهم إياه ، ولكنهم يخلصون له العبادة ويفردونه بالطاعة ( ولا يقتلون النفس التي حرم الله ) قتلها ( إلا بالحق ) إما بكفر بالله بعد إسلامها ، أو زنا بعد إحصانها ، أو قتل نفس ، فتقتل بها ( ولا يزنون ) فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج ( ومن يفعل ذلك ) يقول : ومن يأت هذه الأفعال ، فدعا مع الله إلها آخر ، وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق ، وزنى ( يلق أثاما ) يقول : يلق من عقاب الله عقوبة ونكالا كما وصفه ربنا جل ثناؤه ، وهو أنه ( يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ) ، ومن الأثام قول بلعاء بن قيس الكناني :


جزى الله ابن عروة حيث أمسى عقوقا والعقوق له أثام



يعني بالأثام : العقاب .

وقد ذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل قوم من المشركين أرادوا الدخول في الإسلام ، ممن كان منه في شركه هذه الذنوب ، فخافوا أن لا ينفعهم مع ما سلف منهم من ذلك إسلام ، فاستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية ، يعلمهم أن الله قابل توبة من تاب منهم . [ ص: 304 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : ثني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا ، فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن الذي تدعونا إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ) ونزلت : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) إلى قوله : ( من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ) قال ابن جريج : وقال مجاهد مثل قول ابن عباس سواء .

حدثنا عبد الله بن محمد الفريابي ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي معاوية ، عن أبي عمرو الشيباني ، عن عبد الله ، قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم : ما الكبائر ؟ قال : أن تدعو لله ندا وهو خلقك ، وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك ، وأن تزني بحليلة جارك ، وقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ) .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا سفيان عن الأعمش ومنصور ، عن أبي وائل ، عن عمرو بن شرحبيل ، عن عبد الله ، قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك ، قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك ، قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك " فأنزل تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ) " . . . الآية .

حدثنا سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا علي بن قادم ، قال : ثنا أسباط بن نصر الهمداني ، عن منصور ، عن أبي وائل ، عن أبي ميسرة ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه .

حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، قال : ثني عمي يحيى بن عيسى ، [ ص: 305 ] عن الأعمش ، عن سفيان ، عن عبد الله قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الذنب أكبر ؟ ثم ذكر نحوه .

حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : ثنا عامر بن مدرك ، قال : ثنا السري - يعني ابن إسماعيل - قال : ثنا الشعبي ، عن مسروق ، قال : قال عبد الله : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فاتبعته ، فجلس على نشز من الأرض ، وقعدت أسفل منه ، ووجهي حيال ركبتيه ، فاغتنمت خلوته وقلت : بأبي وأمي يا رسول الله ، أي الذنوب أكبر ؟ قال : " أن تدعو لله ندا وهو خلقك . قلت : ثم مه ؟ قال : " أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك " . قلت : ثم مه ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " ، ثم تلا هذه الآية : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) . . . إلى آخر الآية .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن منصور ، قال : ثني سعيد بن جبير ، أو حدثت عن سعيد بن جبير ، أن عبد الرحمن بن أبزى أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين التي في النساء ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) . . . إلى آخر الآية ، والآية التي في الفرقان ( ومن يفعل ذلك يلق أثاما ) إلى ( ويخلد فيه مهانا ) قال ابن عباس : إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره ، ثم قتل مؤمنا متعمدا ، فلا توبة له ، والتي في الفرقان لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة : فقد عدلنا بالله ، وقتلنا النفس التي حرم الله بغير الحق ، فما ينفعنا الإسلام ؟ قال : فنزلت ( إلا من تاب ) قال : فمن تاب منهم قبل منه .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، قال : ثني سعيد بن جبير ، أو قال : حدثني الحكم عن سعيد بن جبير ، قال : أمرني عبد الرحمن بن أبزى ، فقال : سل ابن عباس ، عن هاتين الآيتين ، ما أمرهما ؟ عن الآية التي في الفرقان ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله ) الآية ، والتي في النساء ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) فسألت ابن عباس عن ذلك ، فقال : لما أنزل الله التي في الفرقان ، قال مشركو أهل مكة : قد قتلنا النفس التي حرم الله ، ودعونا مع الله إلها آخر ، فقال : ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ) الآية . فهذه لأولئك . وأما التي في النساء ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) . . . الآية ، فإن الرجل إذا عرف الإسلام ، ثم قتل مؤمنا متعمدا ، فجزاؤه جهنم ، فلا توبة له . فذكرته لمجاهد ، [ ص: 306 ] فقال : إلا من ندم .

حدثنا محمد بن عوف الطائي ، قال : ثنا أحمد بن خالد الذهني ، قال : ثنا شيبان ، عن منصور بن المعتمر ، قال : ثني سعيد بن جبير ، قال لي سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى : سل ابن عباس ، عن هاتين الآيتين عن قول الله : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) . . . إلى ( من تاب ) وعن قوله ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) . . . إلى آخر الآية ، قال : فسألت عنها ابن عباس ، فقال : أنزلت هذه الآية في الفرقان بمكة إلى قوله ( ويخلد فيه مهانا ) فقال المشركون : فما يغني عنا الإسلام ، وقد عدلنا بالله ، وقتلنا النفس التي حرم الله ، وأتينا الفواحش ، قال : فأنزل الله ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ) . . . إلى آخر الآية ، قال : وأما من دخل في الإسلام وعقله ، ثم قتل ، فلا توبة له .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال في هذه الآية ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ) . . . الآية ، قال : نزلت في أهل الشرك .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، قال : أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس عن هذه الآية ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) فذكر نحوه .

حدثني عبد الكريم بن عمير ، قال : ثنا إبراهيم بن المنذر ، قال : ثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان ، مولى لبني الديل من أهل المدينة ، عن فليح الشماس ، عن عبيد بن أبي عبيد ، عن أبي هريرة ، قال : " صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العتمة ، ثم انصرفت فإذا امرأة عند بابي ، ثم سلمت ، ففتحت ودخلت ، فبينا أنا في مسجدي أصلي ، إذ نقرت الباب ، فأذنت لها ، فدخلت فقالت : إني جئتك أسألك عن عمل عملت ، هل لي من توبة ؟ فقالت : إني زنيت وولدت ، فقتلته ، فقلت : ولا لا نعمت العين ولا كرامة ، فقامت وهي تدعو بالحسرة تقول : يا حسرتاه ، أخلق هذا الحسن للنار ؟ قال : ثم صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح من تلك الليلة ، ثم جلسنا ننتظر الإذن عليه ، فأذن لنا ، فدخلنا ، ثم خرج من كان معي ، وتخلفت ، فقال : ما لك يا أبا هريرة ، ألك حاجة ؟ فقلت له : يا رسول الله صليت معك البارحة ثم [ ص: 307 ] انصرفت . وقصصت عليه ما قالت المرأة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما قلت لها ؟ قال : قلت لها : لا والله ، ولا نعمت العين ولا كرامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بئس ما قلت ، أما كنت تقرأ هذه الآية ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ) . . . الآية ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ) فقال أبو هريرة : فخرجت ، فلم أترك بالمدينة حصنا ولا دارا إلا وقفت عليه ، فقلت : إن تكن فيكم المرأة التي جاءت أبا هريرة الليلة ، فلتأتني ولتبشر ; فلما صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ، فإذا هي عند بابي ، فقلت : أبشري ، فإني دخلت على النبي ، فذكرت له ما قلت لي ، وما قلت لك ، فقال : وبئس ما قلت لها ، أما كنت تقرأ هذه الآية ؟ فقرأتها عليها ، فخرت ساجدة ، فقالت : الحمد لله الذي جعل مخرجا وتوبة مما عملت ، إن هذه الجارية وابنها حران لوجه الله ، وإني قد تبت مما عملت " .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا جعفر بن سليمان ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، قال : اختلفت إلى ابن عباس ثلاث عشرة سنة ، فما شيء من القرآن إلا سألته عنه ، ورسولي يختلف إلى عائشة ، فما سمعته ولا سمعت أحدا من العلماء يقول : إن الله يقول لذنب : لا أغفره .

وقال آخرون : هذه الآية منسوخة بالتي في النساء .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني المغيرة بن عبد الرحمن الحراني ، عن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد أنه دخل على أبيه وعنده رجل من أهل العراق ، وهو يسأله عن هذه الآية التي في تبارك الفرقان ، والتي في النساء ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) فقال زيد بن ثابت : قد عرفت الناسخة من المنسوخة ، نسختها التي في النساء بعدها بستة أشهر .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال الضحاك بن مزاحم : هذه السورة بينها وبين النساء ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) ثمان حجج . وقال ابن جريج : وأخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جبير : هل لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة ؟ فقال : لا ، فقرأ عليه هذه الآية كلها ، فقال سعيد بن جبير : [ ص: 308 ] قرأتها على ابن عباس كما قرأتها علي ، فقال : هذه مكية ، نسختها آية مدنية ، التي في سورة النساء ، وقد أتينا على البيان عن الصواب من القول في هذه الآية التي في سورة النساء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وبنحو الذي قلنا في الأثام من القول ، قال أهل التأويل ، إلا أنهم قالوا : ذلك عقاب يعاقب الله به من أتى هذه الكبائر بواد في جهنم يدعى أثاما .

ذكر من قال ذلك :

حدثني أحمد بن المقدام ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي يحدث ، عن قتادة ، عن أبي أيوب الأزدي ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : الأثام : واد في جهنم .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( يلق أثاما ) قال : واديا في جهنم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، في قوله : ( ومن يفعل ذلك يلق أثاما ) قال : واديا في جهنم فيه الزناة .

حدثني العباس بن أبي طالب ، قال : ثنا محمد بن زياد ، قال : ثنا شرقي بن قطامي ، عن لقمان بن عامر الخزاعي ، قال : جئت أبا أمامة صدي بن عجلان الباهلي ، فقلت : حدثني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فدعا لي بطعام ، ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو أن صخرة زنة عشر عشروات قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفا ، ثم تنتهي إلى غي وأثام " . قلت : وما غي وأثام ؟ قال : بئران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار ، وهما اللذان ذكر الله في كتابه ( أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) وقوله في الفرقان ( ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ) .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( يلق أثاما ) قال : الأثام الشر ، وقال : سيكفيك ما وراء ذلك : ( يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ) .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( يلق أثاما ) قال : نكالا قال : وقال : إنه واد في جهنم . [ ص: 309 ]

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن هشيم ، قال : أخبرنا زكريا بن أبي مريم قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : إن ما بين شفير جهنم إلى قعرها مسيرة سبعين خريفا بحجر يهوي فيها أو بصخرة تهوي ، عظمها كعشر عشراوات سمان ، فقال له رجل : فهل تحت ذلك من شيء ؟ قال : نعم غي وأثام .

قوله : ( يضاعف له العذاب يوم القيامة ) اختلفت القراء في قراءته ، فقرأته عامة قراء الأمصار سوى عاصم ( يضاعف ) جزما ( ويخلد ) جزما . وقرأه عاصم : ( يضاعف ) رفعا ( ويخلد ) رفعا كلاهما على الابتداء ، وأن الكلام عنده قد تناهى عند ( يلق أثاما ) ثم ابتدأ قوله : ( يضاعف له العذاب ) . والصواب من القراءة عندنا فيه : جزم الحرفين كليهما : يضاعف ، ويخلد ، وذلك أنه تفسير للأثام لا فعل له ، ولو كان فعلا له كان الوجه فيه الرفع ، كما قال الشاعر :


متى تأته تعشو إلى ضوء ناره     تجد خير نار عندها خير موقد



فرفع تعشو ، لأنه فعل لقوله تأته ، معناه : متى تأته عاشيا .

وقوله ( ويخلد فيه مهانا ) ويبقى فيه إلى ما لا نهاية في هوان . وقوله : ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ) [ ص: 310 ] يقول تعالى ذكره : ومن يفعل هذه الأفعال التي ذكرها جل ثناؤه يلق أثاما ( إلا من تاب ) يقول : إلا من راجع طاعة الله تبارك وتعالى بتركه ذلك ، وإنابته إلى ما يرضاه الله ( وآمن ) يقول : وصدق بما جاء به محمد نبي الله ( وعمل عملا صالحا ) يقول : وعمل بما أمره الله من الأعمال ، وانتهى عما نهاه الله عنه .

قوله : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) . اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فأولئك يبدل الله بقبائح أعمالهم في الشرك ، محاسن الأعمال في الإسلام ، فيبدله بالشرك إيمانا ، وبقيل أهل الشرك بالله قيل أهل الإيمان به ، وبالزنا عفة وإحصانا .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) قال : هم المؤمنون كانوا قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن ذلك ، فحولهم إلى الحسنات ، وأبدلهم مكان السيئات حسنات .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ) . . . إلى آخر الآية ، قال : هم الذين يتوبون فيعملون بالطاعة ، فيبدل الله سيئاتهم حسنات حين يتوبون .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن سعيد ، قال : نزلت ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) . . . إلى آخر الآية في وحشي وأصحابه ، قالوا : كيف لنا بالتوبة ، وقد عبدنا الأوثان ، وقتلنا المؤمنين ، ونكحنا المشركات ، فأنزل الله فيهم ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) فأبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الله ، وأبدلهم بقتالهم مع المشركين قتالا مع المسلمين للمشركين ، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس ، في قوله : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) قال : بالشرك إيمانا ، وبالقتل إمساكا ، والزنا إحصانا .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت [ ص: 311 ] الضحاك يقول في قوله : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) وهذه الآية مكية نزلت بمكة ( ومن يفعل ذلك ) يعني : الشرك ، والقتل ، والزنا جميعا . لما أنزل الله هذه الآية قال المشركون من أهل مكة : يزعم محمد أن من أشرك وقتل وزنى فله النار ، وليس له عند الله خير ، فأنزل الله ( إلا من تاب ) من المشركين من أهل مكة ، ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) يقول : يبدل الله مكان الشرك والقتل والزنا : الإيمان بالله ، والدخول في الإسلام ، وهو التبديل في الدنيا . وأنزل الله في ذلك ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) يعنيهم بذلك ( لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) يعني ما كان في الشرك ، يقول الله لهم : ( أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ) ، يدعوهم إلى الإسلام ، فهاتان الآيتان مكيتان والتي في النساء ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) . . . الآية ، هذه مدنية نزلت بالمدينة ، وبينها وبين التي نزلت في الفرقان ثمان سنين ، وهي مبهمة ليس منها مخرج .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا أبو تميلة ، قال ثنا أبو حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : سئل ابن عباس عن قول الله جل ثناؤه : ( يبدل الله سيئاتهم حسنات ) فقال :


بدلن بعد حره خريفا     وبعد طول النفس الوجيفا



حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) . . . إلى قوله : ( ويخلد فيه مهانا ) فقال المشركون : ولا والله ما كان هؤلاء الذين مع محمد إلا معنا ، قال : فأنزل الله ( إلا من تاب وآمن ) قال : تاب من الشرك ، قال : وآمن بعقاب الله ورسوله ( وعمل عملا صالحا ) [ ص: 312 ] قال : صدق ، ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) قال : يبدل الله أعمالهم السيئة التي كانت في الشرك بالأعمال الصالحة حين دخلوا في الإيمان .

وقال آخرون : بل معنى ذلك ، فأولئك يبدل الله سيئاتهم في الدنيا حسنات لهم يوم القيامة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني أحمد بن عمرو البصري ، قال : ثنا قريش بن أنس أبو أنس ، قال : ثني صالح بن رستم ، عن عطاء الخراساني ، عن سعيد بن المسيب ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) قال : تصير سيئاتهم حسنات لهم يوم القيامة .

حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا محمد بن خازم أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار ، وآخر أهل النار دخولا الجنة ، قال : يؤتى برجل يوم القيامة ، فيقال : نحوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها ، قال : فيقال له : عملت كذا وكذا ، وعملت كذا وكذا ، قال : فيقول : يا رب لقد عملت أشياء ما أراها هاهنا ، قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، قال : فيقال له : لك مكان كل سيئة حسنة " .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، تأويل من تأوله : فأولئك يبدل الله سيئاتهم : أعمالهم في الشرك حسنات في الإسلام ، بنقلهم عما يسخطه الله من الأعمال إلى ما يرضى .

وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت على ما كانت عليه من القبح ، وغير جائز تحويل عين قد مضت بصفة إلى خلاف ما كانت عليه إلا بتغييرها عما كانت عليه من صفتها في حال أخرى ، فيجب إن فعل ذلك كذلك أن يصير شرك الكافر الذي كان شركا في الكفر بعينه إيمانا يوم القيامة بالإسلام ومعاصيه كلها بأعيانها طاعة ، وذلك ما لا يقوله ذو حجا .

وقوله : ( وكان الله غفورا رحيما ) يقول تعالى ذكره : وكان الله ذا عفو عن ذنوب من تاب من عباده ، وراجع طاعته ، وذا رحمة به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها . قوله : ( ومن تاب ) يقول : ومن تاب من المشركين ، فآمن بالله ورسوله [ ص: 313 ] ( وعمل صالحا ) يقول : وعمل بما أمره الله فأطاعه ، فإن الله فاعل به من إبداله سيئ أعماله في الشرك بحسنها في الإسلام ، مثل الذي فعل من ذلك بمن تاب وآمن وعمل صالحا قبل نزول هذه الآية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ) قال : هذا للمشركين الذين قالوا لما أنزلت ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) . . . إلى قوله ( وكان الله غفورا رحيما ) لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما كان هؤلاء إلا معنا ، قال : ومن تاب وعمل صالحا فإن لهم مثل ما لهؤلاء ( فإنه يتوب إلى الله متابا ) لم تحظر التوبة عليكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية