صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وأزلفنا ثم الآخرين ( 64 ) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ( 65 ) ثم أغرقنا الآخرين ( 66 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 67 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 68 ) )

يعني بقوله تعالى ذكره : ( وأزلفنا ثم الآخرين ) : وقربنا هنالك آل فرعون من البحر ، وقدمناهم إليه ، ومنه قوله : ( وأزلفت الجنة للمتقين ) بمعنى : قربت وأدنيت ; ومنه قول العجاج :


طي الليالي زلفا فزلفا سماوة الهلال حتى احقوقفا

[ ص: 359 ]

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : ( وأزلفنا ثم الآخرين ) قال : قربنا .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( وأزلفنا ثم الآخرين ) قال : هم قوم فرعون قربهم الله حتى أغرقهم في البحر .

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : دنا فرعون وأصحابه بعد ما قطع موسى ببني إسرائيل البحر من البحر ; فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا ، قال : ألا ترون البحر فرق مني ، قد تفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم ، فذلك قول الله ( وأزلفنا ثم الآخرين ) يقول : قربنا ثم الآخرين هم آل فرعون ; فلما قام فرعون على الطرق ، وأبت خيله أن تتقحم ، فنزل جبرائيل صلى الله عليه وسلم على ماذيانة ، فتشامت الحصن ريح الماذيانة فاقتحمت في أثرها حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم ، أمر البحر أن يأخذهم ، فالتطم عليهم ، وتفرد جبرائيل بمقلة من مقل البحر ، فجعل يدسها في فيه .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : أقبل فرعون فلما أشرف على الماء ، قال أصحاب موسى : يا مكلم الله إن القوم يتبعوننا في الطريق ، فاضرب بعصاك البحر فاخلطه ، فأراد موسى أن يفعل ، فأوحى الله إليه : أن اترك البحر رهوا يقول : أمره على سكناته ( إنهم جند مغرقون ) إنما أمكر بهم ، [ ص: 360 ] فإذا سلكوا طريقكم غرقتهم ; فلما نظر فرعون إلى البحر قال : ألا ترون البحر فرق مني حتى تفتح لي ، حتى أدرك أعدائي فأقتلهم ; فلما وقف على أفواه الطرق وهو على حصان ، فرأى الحصان البحر فيه أمثال الجبال هاب وخاف ، وقال فرعون : أنا راجع ، فمكر به جبرائيل عليه السلام ، فأقبل على فرس أنثى ، فأدناها من حصان فرعون ، فطفق فرسه لا يقر ، وجعل جبرائيل يقول : تقدم ، ويقول : ليس أحد أحق بالطريق منك ، فتشامت الحصن الماذيانة ، فما ملك فرعون فرسه أن ولج على أثره ; فلما انتهى فرعون إلى وسط البحر ، أوحى الله إلى البحر : خذ عبدي الظالم وعبادي الظلمة ، سلطاني فيك ، فإني قد سلطتك عليهم ، قال : فتغطمطت تلك الفرق من الأمواج كأنها الجبال ، وضرب بعضها بعضا ; فلما أدركه الغرق ( قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) وكان جبرائيل صلى الله عليه وسلم شديد الأسف عليه لما رد من آيات الله ، ولطول علاج موسى إياه ، فدخل في أسفل البحر ، فأخرج طينا ، فحشاه في فم فرعون لكيلا يقولها الثانية ، فتدركه الرحمة ، قال : فبعث الله إليه ميكائيل يعيره : ( آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) وقال جبرائيل : يا محمد ما أبغضت أحدا من خلق الله ما أبغضت اثنين أحدهما من الجن وهو إبليس ، والآخر فرعون ( فقال أنا ربكم الأعلى ) : ولقد رأيتني يا محمد ، وأنا أحشو في فيه مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها .

وقد زعم بعضهم أن معنى قوله : ( وأزلفنا ثم الآخرين ) وجمعنا ، قال : ومنه ليلة المزدلفة ، قال : ومعنى ذلك : أنها ليلة جمع . وقال بعضهم : وأزلفنا ثم : وأهلكنا .

وقوله : ( وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ) يقول تعالى ذكره : وأنجينا موسى مما أتبعنا به فرعون وقومه من الغرق في البحر ومن مع موسى من بني إسرائيل أجمعين . وقوله : ( ثم أغرقنا الآخرين ) يقول : ثم أغرقنا فرعون وقومه من القبط في البحر بعد أن أنجينا موسى منه ومن معه .

وقوله : ( إن في ذلك لآية ) يقول تعالى ذكره : إن فيما فعلت بفرعون ومن معه ، تغريقي إياهم في البحر إذ كذبوا رسولي موسى ، وخالفوا أمري بعد الإعذار إليهم ، والإنذار لدلالة بينة يا محمد لقومك من قريش على أن ذلك سنتي فيمن سلك سبيلهم من تكذيب رسلي ، وعظة لهم وعبرة أن ادكروا واعتبروا أن يفعلوا مثل فعلهم من تكذيبك مع البرهان والآيات التي قد أتيتهم ، فيحل بهم من العقوبة نظير ما حل بهم ، ولك آية في فعلي بموسى ، وتنجيتي إياه بعد طول علاجه فرعون وقومه [ ص: 361 ] منه ، وإظهاري إياه وتوريثه وقومه دورهم وأرضهم وأموالهم ، على أني سالك فيك سبيله ، إن أنت صبرت صبره ، وقمت من تبليغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه قيامه ، ومظهرك على مكذبيك ، ومعليك عليهم . ( وما كان أكثرهم مؤمنين ) يقول : وما كان أكثر قومك يا محمد مؤمنين بما أتاك الله من الحق المبين ، فسابق في علمي أنهم لا يؤمنون .

( وإن ربك لهو العزيز ) في انتقامه ممن كفر به وكذب رسله من أعدائه ، ( الرحيم ) بمن أنجى من رسله ، وأتباعهم من الغرق والعذاب الذي عذب به الكفرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية