صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ( 35 ) فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ( 36 ) ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ( 37 ) )

ذكر أنها قالت : إني مرسلة إلى سليمان ، لتختبره بذلك وتعرفه به ، أملك هو ، أم نبي ؟ وقالت : إن يكن نبيا لم يقبل الهدية ، ولم يرضه منا ، إلا أن نتبعه على دينه ، وإن يكن ملكا قبل الهدية وانصرف .

ذكر الرواية عمن قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قالت : ( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ) قال : وبعثت إليه بوصائف ووصفاء ، وألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف ذكر من أنثى ، فقالت : إن زيل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى ، ثم رد الهدية فإنه نبي ، وينبغي لنا أن نترك ملكنا ونتبع دينه ، ونلحق به .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( وإني مرسلة إليهم بهدية ) قال : بجوار لباسهم لباس الغلمان ، وغلمان لباسهم [ ص: 456 ] لباس الجواري .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قولها : ( وإني مرسلة إليهم بهدية ) قال : مائتي غلام ومائتي جارية . قال ابن جريج : قال مجاهد : قوله : ( بهدية ) قال : جوار ألبستهن لباس الغلمان ، وغلمان ألبستهم لباس الجواري .

قال ابن جريج : قال : قالت : فإن خلص الجواري من الغلمان ، ورد الهدية فإنه نبي ، وينبغي لنا أن نتبعه .

قال ابن جريج ، قال مجاهد : فخلص سليمان بعضهم من بعض ، ولم يقبل هديتها .

قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا سفيان ، عن معمر ، عن ثابت البناني ، قال : أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج ، فلما بلغ ذلك سليمان أمر الجن فموهوا له الآجر بالذهب ، ثم أمر به فألقي في الطرق ، فلما جاءوا فرأوه ملقى ما يلتفت إليه ، صغر في أعينهم ما جاءوا به .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ) . . . الآية ، وقالت : إن هذا الرجل إن كان إنما همته الدنيا فسنرضيه ، وإن كان إنما يريد الدين فلن يقبل غيره ( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ) .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : كانت بلقيس امرأة لبيبة أديبة في بيت ملك ، لم تملك إلا لبقايا من مضى من أهلها ، إنه قد سيست وساست حتى أحكمها ذلك ، وكان دينها ودين قومها فيما ذكر الزنديقية ; فلما قرأت الكتاب سمعت كتابا ليس من كتب الملوك التي كانت قبلها ، فبعثت إلى المقاولة من أهل اليمن ، فقالت لهم : ( يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ) إلى قوله ( بم يرجع المرسلون ) ثم قالت : إنه قد جاءني كتاب لم يأتني مثله من ملك من الملوك قبله ، فإن يكن الرجل نبيا مرسلا فلا طاقة لنا به ولا قوة ، وإن يكن الرجل ملكا يكاثر ، فليس بأعز منا ، ولا أعد . فهيأت هدايا مما يهدى للملوك ، مما يفتنون به ، فقالت : إن يكن ملكا فسيقبل الهدية ويرغب في المال ، وإن يكن نبيا [ ص: 457 ] فليس له في الدنيا حاجة ، وليس إياها يريد ، إنما يريد أن ندخل معه في دينه ونتبعه على أمره ، أو كما قالت .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وإني مرسلة إليهم بهدية ) بعثت بوصائف ووصفاء ، لباسهم لباس واحد ، فقالت : إن زيل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى ، ثم رد الهدية فهو نبي ، وينبغي لنا أن نتبعه ، وندخل في دينه ; فزيل سليمان بين الغلمان والجواري ، ورد الهدية ، فقال ( أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم ) .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان في الهدايا التي بعثت بها وصائف ووصفاء يختلفون في ثيابهم ، ليميز الغلمان من الجواري ، قال : فدعا بماء ، فجعل الجواري يتوضأن من المرفق إلى أسفل ، وجعل الغلمان يتوضئون من المرفق إلى فوق . قال : وكان أبي يحدثنا هذا الحديث .

حدثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، قال : ثنا إسماعيل ، عن أبي صالح : ( وإني مرسلة إليهم بهدية ) قال : أرسلت بلبنة من ذهب ، وقالت : إن كان يريد الدنيا علمته ، وإن كان يريد الآخرة علمته .

وقوله : ( فناظرة بم يرجع المرسلون ) تقول : فأنظر بأي شيء من خبره وفعله في هديتي التي أرسلها إليه ترجع رسلي ، أبقبول وانصراف عنا ، أم برد الهدية والثبات على مطالبتنا باتباعه على دينه ؟ وأسقطت الألف من " ما " في قوله ( بم ) وأصله : بما ، لأن العرب إذا كانت " ما " بمعنى : أي ، ثم وصلوها بحرف خافض أسقطوا ألفها تفريقا بين الاستفهام وغيره ، كما قال جل ثناؤه ( عم يتساءلون ) و ( قالوا فيم كنتم ) ، وربما أثبتوا فيها الألف ، كما قال الشاعر :


علاما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في تراب

[ ص: 458 ]

وقالت : ( وإني مرسلة إليهم ) وإنما أرسلت إلى سليمان وحده على النحو الذي بينا في قوله : ( على خوف من فرعون وملئهم ) ، وقوله : ( فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال ) .

إن قال قائل : وكيف قيل : ( فلما جاء سليمان ) فجعل الخبر في مجيء سليمان عن واحد ، وقد قال قبل ذلك : ( فناظرة بم يرجع المرسلون ) فإن كان الرسول كان واحدا ، فكيف قيل ( بم يرجع المرسلون ) وإن كانوا جماعة فكيف قيل : ( فلما جاء سليمان ) قيل : هذا نظير ما قد بينا قبل من إظهار العرب الخبر في أمر كان من واحد على وجه الخبر ، عن جماعة إذا لم يقصد قصد الخبر عن شخص واحد بعينه ، يشار إليه بعينه ، فسمي في الخبر . وقد قيل : إن الرسول الذي وجهته ملكة سبأ إلى سليمان كان امرأ واحدا ، فلذلك قال : ( فلما جاء سليمان ) يراد به : فلما جاء الرسول سليمان ; واستدل قائلو ذلك على صحة ما قالوا من ذلك بقول سليمان للرسول : ( ارجع إليهم ) وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله ، فلما جاءوا سليمان على الجمع ، وذلك للفظ قوله : ( بم يرجع المرسلون ) فصلح الجمع للفظ والتوحيد للمعنى .

وقوله : ( أتمدونن بمال ) يقول : قال سليمان لما جاء الرسول من قبل المرأة بهداياها : أتمدونن بمال .

واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قراء أهل المدينة " أتمدونني " بنونين ، وإثبات الياء . وقرأه بعض الكوفيين مثل ذلك ، غير أنه حذف الياء من آخر ذلك وكسر النون الأخيرة . وقرأه بعض قراء البصرة بنونين ، وإثبات الياء في الوصل وحذفها في الوقف . وقرأه بعض قراء الكوفة بتشديد النون وإثبات الياء . وكل هذه القراءات متقاربات وجميعها صواب ، لأنها معروفة في لغات العرب ، مشهورة في منطقها .

وقوله : ( فما آتاني الله خير مما آتاكم ) يقول : فما آتاني الله من المال والدنيا أكثر مما أعطاكم منها وأفضل ( بل أنتم بهديتكم تفرحون ) يقول : ما أفرح بهديتكم التي [ ص: 459 ] أهديتم إلي ، بل أنتم تفرحون بالهدية التي تهدى إليكم ، لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا ، ومكاثرة بها ، وليست الدنيا وأموالها من حاجتي ، لأن لله تعالى ذكره قد مكنني منها وملكني فيها ما لم يملك أحدا .

( ارجع إليهم ) وهذا قول سليمان لرسول المرأة ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ) لا طاقة لهم بها ولا قدرة لهم على دفعهم عما أرادوا منهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما أتت الهدايا سليمان فيها الوصائف والوصفاء ، والخيل العراب ، وأصناف من أصناف الدنيا ، قال للرسل الذين جاءوا به : ( أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ) لأنه لا حاجة لي بهديتكم ، وليس رأيي فيه كرأيكم ، فارجعوا إليها بما جئتم به من عندها ، ( فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ) .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : ( فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ) قال : لا طاقة لهم بها . وقوله : ( ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ) يقول : ولنخرجن من أرسلكم من أرضهم أذلة وهم صاغرون إن لم يأتوني مسلمين .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : ( ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ) ، أو لتأتيني مسلمة هي وقومها .

التالي السابق


الخدمات العلمية