صفحة جزء
[ ص: 236 ] القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : ( بالغيب )

272 - حدثنا محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : "بالغيب " ، قال : بما جاء منه ، يعني : من الله جل ثناؤه .

273 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، "بالغيب " : أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار ، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن . لم يكن تصديقهم بذلك - يعني المؤمنين من العرب - من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم .

274 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر ، قال : الغيب القرآن .

275 - حدثنا بشر بن معاذ العقدي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في قوله " الذين يؤمنون بالغيب " ، قال : آمنوا بالجنة والنار ، والبعث بعد الموت ، وبيوم القيامة ، وكل هذا غيب .

276 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، [ ص: 237 ] عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، " الذين يؤمنون بالغيب " : آمنوا بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر ، وجنته وناره ولقائه ، وآمنوا بالحياة بعد الموت . فهذا كله غيب .

وأصل الغيب : كل ما غاب عنك من شيء . وهو من قولك : غاب فلان يغيب غيبا .

وقد اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أنزل الله جل ثناؤه هاتين الآيتين من أول هذه السورة فيهم ، وفي نعتهم وصفتهم التي وصفهم بها ، من إيمانهم بالغيب ، وسائر المعاني التي حوتها الآيتان من صفاتهم غيره .

فقال بعضهم : هم مؤمنو العرب خاصة ، دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب .

واستدلوا على صحة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم ، بالآية التي تتلو هاتين الآيتين ، وهو قول الله عز وجل : ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) . قالوا : فلم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الذي أنزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم ، تدين بتصديقه والإقرار والعمل به . وإنما كان الكتاب لأهل الكتابين غيرها . قالوا : فلما قص الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبله - بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب - علمنا أن كل صنف منهم غير الصنف الآخر ، وأن المؤمنين بالغيب نوع غير النوع المصدق بالكتابين اللذين أحدهما منزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، والآخر منهما على من قبل رسول الله . [ ص: 238 ]

قالوا : وإذ كان ذلك كذلك ، صح ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى : ( الذين يؤمنون بالغيب ) ، إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار ، والثواب والعقاب والبعث ، والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وجميع ما كانت العرب لا تدين به في جاهليتها ، مما أوجب الله جل ثناؤه على عباده الدينونة به - دون غيرهم .

ذكر من قال ذلك :

277 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أما ( الذين يؤمنون بالغيب ) ، فهم المؤمنون من العرب ، ( ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) . أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار ، وما ذكر الله في القرآن . لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم . ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب .

وقال بعضهم : بل نزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة ، لإيمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويسرونها ، فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك منهم في تنزيله ، أنه من عند الله جل وعز ، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وصدقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها ، لما استقر عندهم - بالحجة التي احتج الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه ، من الإخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم - أن جميع ذلك من عند الله . [ ص: 239 ]

وقال بعضهم : بل الآيات الأربع من أول هذه السورة ، أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم ، وأهل الكتابين وسواهم . وإنما هذه صفة صنف من الناس ، والمؤمن بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل من قبله ، هو المؤمن بالغيب .

قالوا : وإنما وصفهم الله بالإيمان بما أنزل إلى محمد وبما أنزل إلى من قبله ، بعد تقضي وصفه إياهم بالإيمان بالغيب ، لأن وصفه إياهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب ، كان معنيا به أنهم يؤمنون بالجنة والنار والبعث وسائر الأمور التي كلفهم الله جل ثناؤه الإيمان بها ، مما لم يروه ولم يأت بعد مما هو آت ، دون الإخبار عنهم أنهم يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ومن الكتب .

قالوا : فلما كان معنى قوله تعالى ذكره : ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) غير موجود في قوله ( الذين يؤمنون بالغيب ) - كانت الحاجة من العباد إلى معرفة صفتهم بذلك ليعرفوهم ، نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصفة التي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب ليعلموا ما يرضى الله من أفعال عباده ويحبه من صفاتهم ، فيكونوا به - إن وفقهم له ربهم - مؤمنين .

ذكر من قال ذلك :

278 - حدثني محمد بن عمرو بن العباس الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون المكي ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين ، [ ص: 240 ] وآيتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة في المنافقين .

279 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، بمثله .

280 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا موسى بن مسعود ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

281 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : أربع آيات من فاتحة هذه السورة - يعني سورة البقرة - في الذين آمنوا ، وآيتان في قادة الأحزاب .

وأولى القولين عندي بالصواب ، وأشبههما بتأويل الكتاب ، القول الأول ، وهو : أن الذين وصفهم الله تعالى ذكره بالإيمان بالغيب ، وبما وصفهم به جل ثناؤه في الآيتين الأولتين ، غير الذين وصفهم بالإيمان بالذي أنزل على محمد والذي أنزل على من قبله من الرسل ، لما ذكرت من العلل قبل لمن قال ذلك .

ومما يدل أيضا مع ذلك على صحة هذا القول ، أنه جنس - بعد وصف المؤمنين بالصفتين اللتين وصف ، وبعد تصنيفه كل صنف منهما على ما صنف الكفار - [ ص: 241 ] جنسين فجعل أحدهما مطبوعا على قلبه ، مختوما عليه ، مأيوسا من إيابه ، والآخر منافقا ، يرائي بإظهار الإيمان في الظاهر ، ويستسر النفاق في الباطن . فصير الكفار جنسين ، كما صير المؤمنين في أول السورة جنسين . ثم عرف عباده نعت كل صنف منهم وصفتهم ، وما أعد لكل فريق منهم من ثواب أو عقاب ، وذم أهل الذم منهم ، وشكر سعي أهل الطاعة منهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية