صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك :

فقرأه بعضهم : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" بكسر"الخاء" ، على وجه الأمر باتخاذه مصلى . وهي قراءة عامة المصرين الكوفة والبصرة ، وقراءة عامة قرأة أهل مكة وبعض قرأة أهل المدينة . وذهب إليه الذين قرأوه كذلك ، من الخبر الذي : -

1985 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال : أخبرنا حميد ، عن أنس بن مالك قال : قال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله ، لو اتخذت المقام مصلى! فأنزل الله : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" .

1986 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي - وحدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية - جميعا ، عن حميد ، عن أنس ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله . [ ص: 31 ]

1987 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا حميد ، عن أنس قال : قال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله ، فذكر مثله .

قالوا : فإنما أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية أمرا منه نبيه صلى الله عليه وسلم باتخاذ مقام إبراهيم مصلى . فغير جائز قراءتها - وهي أمر - على وجه الخبر .

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " معطوف على قوله : "يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي" و" واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " . فكان الأمر بهذه الآية ، وباتخاذ المصلى من مقام إبراهيم - على قول هذا القائل - لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، . . . . . كما حدثنا [ عن ] الربيع بن أنس . بما : -

1988 - حدثت [ به ] عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قال : من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم قوله : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " ، فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، فهم يصلون خلف المقام . [ ص: 32 ]

فتأويل قائل هذا القول : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال : إني جاعلك للناس إماما ، وقال : اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى .

قال أبو جعفر : والخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الخطاب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ، يدل على خلاف الذي قاله هؤلاء ، وأنه أمر من الله تعالى ذكره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنين به وجميع الخلق المكلفين .

وقرأه بعض قرأة أهل المدينة والشام : ( واتخذوا ) بفتح "الخاء" على وجه الخبر .

ثم اختلف في الذي عطف عليه بقوله : "واتخذوا" إذ قرئ كذلك ، على وجه الخبر ،

فقال بعض نحويي البصرة : تأويله ، إذا قرئ كذلك : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ، [ وإذ ] اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى .

وقال بعض نحويي الكوفة : بل ذلك معطوف على قوله : "جعلنا" ، فكان معنى الكلام على قوله : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ، واتخذوه مصلى .

قال أبو جعفر : والصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا : "واتخذوا" [ ص: 33 ] بكسر"الخاء" ، على تأويل الأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى ، للخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفا ، وأن :

1989 - عمرو بن علي حدثنا قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثني أبي ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" .

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" ، وفي "مقام إبراهيم" . فقال بعضهم : " مقام إبراهيم " ، هو الحج كله .

ذكر من قال ذلك :

1990 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : "مقام إبراهيم" ، قال : الحج كله مقام إبراهيم .

1991 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال : الحج كله .

1992 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : الحج كله" مقام إبراهيم " .

وقال آخرون : " مقام إبراهيم " عرفة والمزدلفة والجمار .

ذكر من قال ذلك :

1993 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء بن أبي رباح : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال : لأني قد جعلته إماما ، فمقامه عرفة والمزدلفة والجمار . [ ص: 34 ]

1994 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال : مقامه : جمع وعرفة ومنى - لا أعلمه إلا وقد ذكر مكة .

1995 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال : مقامه عرفة .

1996 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا داود ، عن الشعبي قال : نزلت عليه وهو واقف بعرفة ، مقام إبراهيم : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) [ سورة المائدة : 3 ] ، الآية .

1997 - حدثنا عمرو قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا داود ، عن الشعبي مثله

وقال آخرون : " مقام إبراهيم " ، الحرم .

ذكر من قال ذلك :

1998 - حدثت عن حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال : الحرم كله "مقام إبراهيم" .

وقال آخرون : "مقام إبراهيم" الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه ، وضعف عن [ ص: 35 ] رفع الحجارة .

ذكر من قال ذلك :

1999 - حدثنا سنان القزاز قال : حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي قال : حدثنا إبراهيم بن نافع قال : سمعت كثير بن كثير يحدث ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جعل إبراهيم يبنيه ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان : " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " . فلما ارتفع البنيان ، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة ، قام على حجر ، فهو " مقام إبراهيم "

وقال آخرون : بل " مقام إبراهيم " ، هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام .

ذكر من قال ذلك :

2000 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " ، إنما أمروا أن يصلوا عنده ، ولم يؤمروا بمسحه . ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها . ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه ، فما زالت هذه الأمم يمسحونه حتى اخلولق وانمحى .

2001 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " ، فهم يصلون خلف المقام .

2002 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " ، وهو الصلاة عند مقامه في الحج .

و"المقام" هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه ، فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب ، فغسلت شقه ، ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر ، فوضعته تحت الشق الآخر ، فغسلته ، فغابت رجله [ ص: 36 ] أيضا فيه ، فجعلها الله من شعائره ، فقال : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا ، ما قاله القائلون : إن" مقام إبراهيم " ، هو المقام المعروف بهذا الاسم ، الذي هو في المسجد الحرام ، لما روينا آنفا عن عمر بن الخطاب ، ولما : -

2003 - حدثنا يوسف بن سلمان قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر قال : استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن ، فرمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" . فجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين .

فهذان الخبران ينبئان أن الله تعالى ذكره إنما عنى ب" مقام إبراهيم " الذي أمرنا الله باتخاذه مصلى - هو الذي وصفنا .

ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه [ ص: 37 ] وسلم ، لكان الواجب فيه من القول ما قلنا . وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف ، دون باطنه المجهول ، حتى يأتي ما يدل على خلاف ذلك ، مما يجب التسليم له . ولا شك أن المعروف في الناس ب" مقام إبراهيم " هو المصلى الذي قال الله تعالى ذكره : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"

[ قال أبو جعفر : وأما قوله تعالى : "مصلى" ] ، فإن أهل التأويل مختلفون في معناه . فقال بعضهم : هو المدعى .

ذكر من قال ذلك :

2004 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال : مصلى إبراهيم مدعى .

وقال آخرون : معنى ذلك : اتخذوا مصلى تصلون عنده .

ذكر من قال ذلك :

2005 - حدثني بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : أمروا أن يصلوا عنده .

2006 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : هو الصلاة عنده .

قال أبو جعفر : فكأن الذين قالوا : تأويل : "المصلى" ههنا ، المدعى ، وجهوا "المصلى" إلى أنه "مفعل" ، من قول القائل : "صليت" بمعنى دعوت .

[ ص: 38 ] وقائلو هذه المقالة ، هم الذين قالوا : إن مقام إبراهيم هو الحج كله .

فكان معناه في تأويل هذه الآية : واتخذوا عرفة والمزدلفة والمشعر والجمار ، وسائر أماكن الحج التي كان إبراهيم يقوم بها مداعي تدعوني عندها ، وتأتمون بإبراهيم خليلي عليه السلام فيها ، فإني قد جعلته لمن بعده - من أوليائي وأهل طاعتي - إماما يقتدون به وبآثاره ، فاقتدوا به .

وأما تأويل القائلين القول الآخر ، فإنه : اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده ، عبادة منكم ، وتكرمة مني لإبراهيم .

وهذا القول هو أولى بالصواب ، لما ذكرنا من الخبر عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية