القول في تأويل قوله تعالى : ( 
إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون  ( 8 ) 
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون  ( 9 ) )  
[ ص: 493 ] 
يقول - تعالى ذكره - : إنا جعلنا أيمان هؤلاء الكفار مغلولة إلى أعناقهم بالأغلال ، فلا تبسط بشيء من الخيرات . وهي في قراءة عبد الله فيما ذكر ( إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا فهي إلى الأذقان ) وقوله ( إلى الأذقان ) يعني : فأيمانهم مجموعة بالأغلال في أعناقهم ، فكني عن الأيمان ، ولم يجر لها ذكر لمعرفة السامعين بمعنى الكلام ، وأن الأغلال إذا كانت في الأعناق لم تكن إلا وأيدي المغلولين مجموعة بها إليها ، فاستغنى بذكر كون الأغلال في الأعناق من ذكر الأيمان ، كما قال الشاعر : 
وما أدري إذا يممت وجها أريد الخير أيهما يليني     أألخير الذي أنا أبتغيه 
أم الشر الذي لا يأتليني 
فكنى عن الشر ، وإنما ذكر الخير وحده لعلم سامع ذلك بمعنى قائله ، إذ كان الشر مع الخير يذكر . والأذقان : جمع ذقن ، والذقن : مجمع اللحيين . 
وقوله ( فهم مقمحون ) والمقمح هو المقنع ، وهو أن يحدر الذقن حتى يصير في الصدر ، ثم يرفع رأسه في قول بعض أهل العلم بكلام العرب من 
أهل البصرة  ، وفي قول بعض الكوفيين : هو الغاض بصره بعد رفع رأسه . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل  
[ ص: 494 ]  . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني 
محمد بن سعد  قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن 
ابن عباس ،  قوله ( 
إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون  ) قال : هو كقول الله ( 
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك  ) يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم ، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير  . 
حدثني 
محمد بن عمرو  قال : ثنا 
أبو عاصم  قال : ثنا 
عيسى  ، وحدثني 
الحارث  قال : ثنا 
الحسن  قال : ثنا 
ورقاء ،  جميعا عن 
ابن أبي نجيح ،  عن 
مجاهد  في قوله ( 
فهم مقمحون  ) قال : رافعو رءوسهم ، وأيديهم موضوعة على أفواههم  . 
حدثنا 
بشر  قال : ثنا 
يزيد  قال : ثنا 
سعيد ،  عن 
قتادة ،  قوله ( 
إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون  ) : أي فهم مغلولون عن كل خير  . 
وقوله ( 
وجعلنا من بين أيديهم سدا  ) يقول - تعالى ذكره - : وجعلنا من بين أيدي هؤلاء المشركين سدا ، وهو الحاجز بين الشيئين ; إذا فتح كان من فعل بني 
آدم ،  وإذا كان من فعل الله كان بالضم . وبالضم قرأ ذلك قراء 
المدينة ،  والبصرة ،  وبعض الكوفيين . وقرأه بعض المكيين وعامة قراء الكوفيين بفتح السين ( سدا ) في الحرفين كلاهما ; والضم أعجب القراءتين إلي في ذلك ، وإن كانت الأخرى جائزة صحيحة . 
وعنى بقوله ( 
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا  ) أنه زين لهم سوء أعمالهم فهم يعمهون ، ولا يبصرون رشدا ، ولا يتنبهون حقا . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني 
ابن حميد  قال : ثنا 
حكام ،  عن 
عنبسة ،  عن 
محمد بن عبد الرحمن ،   [ ص: 495 ] عن 
القاسم بن أبي بزة ،  عن 
مجاهد  في قوله ( 
من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا  ) قال : عن الحق  . 
حدثني 
محمد بن عمرو  قال : ثنا 
أبو عاصم  قال : ثنا 
عيسى ;  وحدثني 
الحارث  قال : ثنا 
الحسن  قال : ثنا 
ورقاء ،  جميعا عن 
ابن أبي نجيح ،  عن 
مجاهد   ( 
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا  ) عن الحق فهم يترددون  . 
حدثنا 
بشر  قال : ثنا 
يزيد  قال : ثنا 
سعيد ،  عن 
قتادة   ( 
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا  ) قال : ضلالات  . 
حدثني 
يونس  قال : أخبرنا 
ابن وهب  قال : قال 
ابن زيد  في قول الله ( 
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون  ) قال : جعل هذا سدا بينهم وبين الإسلام والإيمان ، فهم لا يخلصون إليه ، وقرأ ( 
وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون  ) وقرأ ( 
إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون  ) . . . الآية كلها ، وقال : من منعه الله لا يستطيع  . 
وقوله ( 
فأغشيناهم فهم لا يبصرون  ) يقول : فأغشينا أبصار هؤلاء أي : جعلنا عليها غشاوة ; فهم لا يبصرون هدى ولا ينتفعون به . 
كما حدثنا 
بشر  قال : ثنا 
يزيد  قال : ثنا 
سعيد ،  عن 
قتادة   ( 
فأغشيناهم فهم لا يبصرون  ) هدى ، ولا ينتفعون به  . 
وذكر أن هذه الآية نزلت في 
أبي جهل بن هشام  حين حلف أن يقتله أو يشدخ رأسه بصخرة . 
ذكر الرواية بذلك : 
حدثني 
عمران بن موسى  قال : ثنا 
عبد الوارث بن سعيد  قال : ثنا 
عمارة بن أبي حفصة ،  عن عكرمة  قال : قال أبو جهل   : لئن رأيت محمدا  لأفعلن ولأفعلن ، فأنزلت ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا  ) . . إلى قوله ( فهم لا يبصرون  )  [ ص: 496 ] قال : فكانوا يقولون : هذا محمد ،  فيقول أين هو ، أين هو؟ لا يبصره  . وقد روي عن 
ابن عباس  أنه كان يقرأ ذلك : ( فأعشيناهم فهم لا يبصرون ) بالعين بمعنى : أعشيناهم عنه ، وذلك أن العشا هو أن يمشي بالليل ولا يبصر .