صفحة جزء
[ ص: 503 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون ( 19 ) وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ( 20 ) اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ( 21 ) )

يقول - تعالى ذكره - : قالت الرسل لأصحاب القرية ( طائركم معكم أئن ذكرتم ) يقولون : أعمالكم وأرزاقكم وحظكم من الخير والشر معكم ، ذلك كله في أعناقكم ، وما ذلك من شؤمنا إن أصابكم سوء فيما كتب عليكم ، وسبق لكم من الله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، ( قالوا طائركم معكم ) أي : أعمالكم معكم .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس ، وعن كعب ، وعن وهب بن منبه ، قالت لهم الرسل ( طائركم معكم ) أي : أعمالكم معكم .

وقوله ( أئن ذكرتم ) اختلفت القراءة في قراءة ذلك ; فقرأته عامة قراء الأمصار ( أئن ذكرتم ) بكسر الألف من " إن " وفتح ألف الاستفهام : بمعنى إن ذكرناكم فمعكم طائركم ، ثم أدخل على " إن " التي هي حرف جزاء ألف استفهام في قول بعض نحويي البصرة ، وفي قول بعض الكوفيين منوي به التكرير ، كأنه قيل : طائركم معكم إن ذكرتم فمعكم طائركم ، فحذف الجواب اكتفاء بدلالة الكلام عليه . وإنما أنكر قائل هذا القول القول الأول ، لأن ألف الاستفهام قد حالت بين الجزاء وبين الشرط ، فلا تكون شرطا لما قبل حرف الاستفهام . وذكر عن أبي رزين أنه قرأ ذلك ( أئن ذكرتم ) بمعنى : ألأن ذكرتم طائركم معكم؟ . وذكر عن بعض قارئيه أنه قرأه ( قالوا طائركم معكم أين ذكرتم ) بمعنى : حيث ذكرتم بتخفيف الكاف من ذكرتم .

والقراءة التي لا نجيز القراءة بغيرها القراءة التي عليها قراء الأمصار ، وهي دخول [ ص: 504 ] ألف الاستفهام على حرف الجزاء ، وتشديد الكاف على المعنى الذي ذكرناه عن قارئيه كذلك ، لإجماع الحجة من القراء عليه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( أئن ذكرتم ) أي : إن ذكرناكم الله تطيرتم بنا؟ ( بل أنتم قوم مسرفون ) .

وقوله ( بل أنتم قوم مسرفون ) يقول : قالوا لهم : ما بكم التطير بنا ، ولكنكم قوم أهل معاص لله وآثام ، قد غلبت عليكم الذنوب والآثام .

وقوله ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ) يقول : وجاء من أقصى مدينة هؤلاء القوم الذين أرسلت إليهم هذه الرسل رجل يسعى إليهم ; وذلك أن أهل المدينة هذه عزموا ، واجتمعت آراؤهم على قتل هؤلاء الرسل الثلاثة فيما ذكر ، فبلغ ذلك هذا الرجل ، وكان منزله أقصى المدينة ، وكان مؤمنا ، وكان اسمه فيما ذكر " حبيب بن مري " .

وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار .

ذكر الأخبار الواردة بذلك :

حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا مؤمل بن إسماعيل قال : ثنا سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن أبي مجلز قال : كان صاحب يس " حبيب بن مري " .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة قال : كان من حديث صاحب يس فيما حدثنا محمد بن إسحاق فيما بلغه ، عن ابن عباس ، وعن كعب الأحبار ، وعن وهب بن منبه اليماني أنه كان رجلا من أهل أنطاكية ، وكان اسمه " حبيبا " وكان يعمل الجرير ، وكان رجلا سقيما ، قد أسرع فيه الجذام ، وكان منزله عند باب من أبواب المدينة قاصيا ، وكان مؤمنا ذا صدقة ، يجمع كسبه إذا أمسى فيما يذكرون ، فيقسمه نصفين ، فيطعم نصفا عياله ، ويتصدق بنصف ، فلم يهمه [ ص: 505 ] سقمه ولا عمله ولا ضعفه ، عن عمل ربه قال : فلما أجمع قومه على قتل الرسل ، بلغ ذلك " حبيبا " وهو على باب المدينة الأقصى ، فجاء يسعى إليهم يذكرهم بالله ، ويدعوهم إلى اتباع المرسلين ، فقال ( يا قوم اتبعوا المرسلين ) حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن عمرو بن حزم أنه حدث عن كعب الأحبار قال : ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم أخو بني مازن بن النجار الذي كان مسيلمة الكذاب قطعه باليمامة حين جعل يسأله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل يقول : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول : نعم ، ثم يقول : أتشهد أني رسول الله؟ فيقول له : لا أسمع ، فيقول مسيلمة : أتسمع هذا ، ولا تسمع هذا؟ فيقول : نعم ، فجعل يقطعه عضوا عضوا ، كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه ، قال كعب حين قيل له اسمه " حبيب " : وكان والله صاحب يس اسمه " حبيب " .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس أنه كان يقول : كان اسم صاحب يس " حبيبا " وكان الجذام قد أسرع فيه .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ) قال : ذكر لنا أن اسمه " حبيب " ، وكان في غار يعبد ربه ، فلما سمع بهم أقبل إليهم . وقوله ( قال يا قوم اتبعوا المرسلين ) يقول - تعالى ذكره - : قال الرجل الذي جاء من أقصى المدينة لقومه : يا قوم اتبعوا المرسلين الذين أرسلهم الله إليكم ، واقبلوا منهم ما أتوكم به .

وذكر أنه لما أتى الرسل سألهم : هل يطلبون على ما جاءوا به أجرا؟ فقالت الرسل : لا فقال لقومه حينئذ : اتبعوا من لا يسألكم على نصيحتهم لكم أجرا [ ص: 506 ] .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : لما انتهى إليهم - يعني إلى الرسل - قال : هل تسألون على هذا من أجر؟ قالوا : لا فقال عند ذلك ( يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ) .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما بلغه ، عن ابن عباس ، وعن كعب الأحبار ، وعن وهب بن منبه ( اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ) أي : لا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى ، وهم لكم ناصحون ، فاتبعوهم تهتدوا بهداهم . وقوله ( وهم مهتدون ) يقول : وهم على استقامة من طريق الحق ، فاهتدوا أيها القوم بهداهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية