صفحة جزء
[ ص: 174 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ( 21 ) إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ( 22 ) )

يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : وهل أتاك يا محمد نبأ الخصم وقيل : إنه عني بالخصم في هذا الموضع ملكان ، وخرج في لفظ الواحد ، لأنه مصدر مثل الزور والسفر ، لا يثنى ولا يجمع ، ومنه قول لبيد :


وخصم يعدون الذحول كأنهم قروم غيارى كل أزهر مصعب



وقوله ( إذ تسوروا المحراب ) يقول : دخلوا عليه من غير باب المحراب ، والمحراب مقدم كل مجلس وبيت وأشرفه .

وقوله ( إذ دخلوا على داود ) فكرر إذ مرتين وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك : قد يكون معناهما كالواحد ، كقولك : ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت ، فيكون الدخول هو الاجتراء ، ويكون أن تجعل إحداهما على مذهب لما ، فكأنه قال : إذ تسوروا المحراب لما دخلوا قال : وإن شئت جعلت لما في الأول ، فإذا كان لما أولا أو آخرا ، فهي بعد صاحبتها ، كما تقول : أعطيته لما سألني ، فالسؤال قبل الإعطاء في تقدمه وتأخره .

وقوله ( ففزع منهم ) يقول القائل : وما كان وجه فزعه منهما وهما خصمان ، فإن فزعه منهما كان لدخولهما عليه من غير الباب الذي كان المدخل [ ص: 175 ] عليه ، فراعه دخولهما كذلك عليه . وقيل : إن فزعه كان منهما ، لأنهما دخلا عليه ليلا في غير وقت نظره بين الناس ، قالوا : ( لا تخف ) يقول - تعالى ذكره - : قال له الخصم : لا تخف يا داود ، وذلك لما رأياه قد ارتاع من دخولهما عليه من غير الباب . وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ظهر من الكلام منه ، وهو مرافع خصمان ، وذلك نحن . وإنما جاز ترك إظهار ذلك مع حاجة الخصمين إلى المرافع ، لأن قوله ( خصمان ) فعل للمتكلم ، والعرب تضمر للمتكلم والمكلم والمخاطب ما يرفع أفعالهما ، ولا يكادون أن يفعلوا ذلك بغيرهما ، فيقولون للرجل يخاطبونه : أمنطلق يا فلان ويقول المتكلم لصاحبه : أحسن إليك وتجمل ، وإنما يفعلون ذلك كذلك في المتكلم والمكلم ، لأنهما حاضران يعرف السامع مراد المتكلم إذا حذف الاسم ، وأكثر ما يجيء ذلك في الاستفهام ، وإن كان جائزا في غير الاستفهام ، فيقال : أجالس راكب ؟ فمن ذلك قوله خصمان ، ومنه قول الشاعر :


وقولا إذا جاوزتما أرض عامر     وجاوزتما الحيين نهدا وخشعما
نزيعان من جرم بن ربان إنهم     أبوا أن يميروا في الهزاهز محجما



وقول الآخر :


تقول ابنة الكعبي يوم لقيتها     أمنطلق في الجيش أم متثاقل

[ ص: 176 ] ومنه قولهم : " محسنة فهيلى " . وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " آيبون تائبون " . وقوله : " جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله " كل ذلك بضمير رفعه . وقوله عز وجل ( بغى بعضنا على بعض ) يقول : تعدى أحدنا على صاحبه بغير حق ( فاحكم بيننا بالحق ) يقول : فاقض بيننا بالعدل ( ولا تشطط ) : يقول : ولا تجر ، ولا تسرف في حكمك ، بالميل منك مع أحدنا على صاحبه . وفيه لغتان : أشط ، وشط . ومن الإشطاط قول الأحوص :


ألا يا لقوم قد أشطت عواذلي     ويزعمن أن أودى بحقي باطلي



ومسموع من بعضهم : شططت علي في السوم . فأما في البعد فإن أكثر كلامهم : شطت الدار ، فهي تشط ، كما قال الشاعر :


تشط غدا دار جيراننا     وللدار بعد غد أبعد



وقوله ( واهدنا إلى سواء الصراط ) يقول : وأرشدنا إلى قصد الطريق المستقيم .

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله ( ولا تشطط ) قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ولا تشطط ) : أي لا تمل .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( ولا تشطط ) يقول : لا تحف .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( ولا تشطط ) تخالف عن الحق ، وكالذي قلنا أيضا في قوله ( واهدنا إلى سواء الصراط ) قالوا .

[ ص: 177 ] ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( واهدنا إلى سواء الصراط ) إلى عدله وخيره .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( واهدنا إلى سواء الصراط ) إلى عدل القضاء .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( واهدنا إلى سواء الصراط ) قال : إلى الحق الذي هو الحق : الطريق المستقيم ( ولا تشطط ) تذهب إلى غيرها .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : ( واهدنا إلى سواء الصراط ) : أي احملنا على الحق ، ولا تخالف بنا إلى غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية