صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ( 8 ) )

يقول - تعالى ذكره - : وإذا مس الإنسان بلاء في جسده من مرض ، أو عاهة ، أو شدة في معيشته ، وجهد وضيق ( دعا ربه ) يقول : استغاث بربه الذي خلقه من شدة ذلك ، ورغب إليه في كشف ما نزل به من شدة ذلك . وقوله : ( منيبا إليه ) يقول : تائبا إليه مما كان من قبل ذلك عليه من الكفر به ، وإشراك الآلهة والأوثان به في عبادته - راجعا إلى طاعته .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وإذا مس الإنسان ضر ) قال : الوجع والبلاء والشدة ( دعا ربه منيبا إليه ) قال : مستغيثا به .

وقوله : ( ثم إذا خوله نعمة منه ) يقول - تعالى ذكره - : ثم إذا منحه ربه نعمة منه ، يعني عافية ، فكشف عنه ضره ، وأبدله بالسقم صحة ، وبالشدة رخاء .

[ ص: 263 ] والعرب تقول لكل من أعطى غيره من مال أو غيره : قد خوله ، ومنه قول أبي النجم العجلي :


أعطى فلم يبخل ولم يبخل كوم الذرا من خول المخول



وحدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه قال : سمعت أبا عمرو يقول في بيت زهير :


هنالك إن يستخولوا المال يخولوا     وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا



قال معمر : قال يونس : إنما سمعناه :


هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا



قال : وهي بمعناها .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي [ ص: 264 ] ( ثم إذا خوله نعمة منه ) : إذا أصابته عافية أو خير .

وقوله : ( نسي ما كان يدعو إليه من قبل ) يقول : ترك دعاءه الذي كان يدعو إلى الله من قبل أن يكشف ما كان به من ضر ( وجعل لله أندادا ) يعني : شركاء . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( نسي ) يقول : ترك ، هذا في الكافر خاصة .

ول " ما " التي في قوله : ( نسي ما كان ) وجهان : أحدهما : أن يكون بمعنى الذي ، ويكون معنى الكلام حينئذ : ترك الذي كان يدعوه في حال الضر الذي كان به ، يعني به الله - تعالى ذكره - فتكون " ما " موضوعة عند ذلك موضع " من " كما قيل : ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) يعني به الله ، وكما قيل : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) . والثاني : أن يكون بمعنى المصدر على ما ذكرت . وإذا كانت بمعنى المصدر ، كان في الهاء التي في قوله : ( إليه ) وجهان : أحدهما : أن يكون من ذكر ما . والآخر : من ذكر الرب .

وقوله : ( وجعل لله أندادا ) يقول : وجعل لله أمثالا وأشباها .

ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي جعلوها فيه له أندادا ، قال بعضهم : جعلوها له أندادا في طاعتهم إياه في معاصي الله .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( وجعل لله أندادا ) قال : الأنداد من الرجال : يطيعونهم في معاصي الله .

وقال آخرون : عنى بذلك أنه عبد الأوثان ، فجعلها لله أندادا في عبادتهم إياها .

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى به أنه أطاع الشيطان [ ص: 265 ] في عبادة الأوثان ، فجعل له الأوثان أندادا ، لأن ذلك في سياق عتاب الله إياهم له على عبادتها .

وقوله : ( ليضل عن سبيله ) يقول : ليزيل من أراد أن يوحد الله ويؤمن به عن توحيده ، والإقرار به ، والدخول في الإسلام . وقوله : ( قل تمتع بكفرك قليلا ) يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : قل يا محمد لفاعل ذلك : تمتع بكفرك بالله قليلا إلى أن تستوفي أجلك ، فتأتيك منيتك ( إنك من أصحاب النار ) : أي إنك من أهل النار الماكثين فيها . وقوله : ( تمتع بكفرك ) : وعيد من الله وتهدد .

التالي السابق


الخدمات العلمية