1. الرئيسية
  2. تفسير الطبري
  3. تفسير سورة الزمر
  4. القول في تأويل قوله تعالى " أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه "
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ( 9 ) )

اختلفت القراء في قراءة قوله : ( أمن ) فقرأ ذلك بعض المكيين وبعض المدنيين وعامة الكوفيين : " أمن " بتخفيف الميم ، ولقراءتهم ذلك كذلك وجهان : أحدهما أن يكون الألف في " أمن " بمعنى الدعاء ، يراد بها : يا من هو قانت آناء الليل ، والعرب تنادي بالألف كما تنادي بيا ، فتقول : أزيد أقبل ، ويا زيد أقبل ، ومنه قولأوس بن حجر :


أبني لبينى لستم بيد إلا يد ليست لها عضد

[ ص: 266 ] وإذا وجهت الألف إلى النداء كان معنى الكلام : قل تمتع أيها الكافر بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ، ويا من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما إنك من أهل الجنة . ويكون في النار عما للفريق الكافر عند الله من الجزاء في الآخرة - الكفاية عن بيان ما للفريق المؤمن ، إذ كان معلوما اختلاف أحوالهما في الدنيا ، ومعقولا أن أحدهما إذا كان من أصحاب النار لكفره بربه أن الآخر من أصحاب الجنة ، فحذف الخبر عما له ، اكتفاء بفهم السامع المراد منه من ذكره ، إذ كان قد دل على المحذوف بالمذكور . والثاني : أن تكون الألف التي في قوله : " أمن " ألف استفهام ، فيكون معنى الكلام : أهذا كالذي جعل لله أندادا ليضل عن سبيله ، ثم اكتفى بما قد سبق من خبر الله عن فريق الكفر به من أعدائه ، إذ كان مفهوما المراد بالكلام ، كما قال الشاعر :


فأقسم لو شيء أتانا رسوله     سواك ولكن لم نجد لك مدفعا



فحذف لدفعناه وهو مراد في الكلام إذ كان مفهوما عند السامع مراده . وقرأ ذلك بعض قراء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة : ( أمن ) بتشديد الميم ، بمعنى : أم من هو ؟ ويقولون : إنما هي ( أمن ) استفهام اعترض في الكلام بعد [ ص: 267 ] كلام قد مضى ، فجاء بأم ، فعلى هذا التأويل يجب أن يكون جواب الاستفهام متروكا من أجل أنه قد جرى الخبر عن فريق الكفر ، وما أعد له في الآخرة ، ثم أتبع الخبر عن فريق الإيمان ، فعلم بذلك المراد ، فاستغني بمعرفة السامع بمعناه من ذكره ، إذ كان معقولا أن معناه : هذا أفضل أم هذا ؟

والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان قرأ بكل واحدة علماء من القراء مع صحة كل واحدة منهما في التأويل والإعراب ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .

وقد ذكرنا اختلاف المختلفين ، والصواب من القول عندنا فيما مضى قبل في معنى القانت ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، غير أنا نذكر بعض أقوال أهل التأويل في ذلك في هذا الموضع ، ليعلم الناظر في الكتاب اتفاق معنى ذلك في هذا الموضع وغيره ، فكان بعضهم يقول : هو في هذا الموضع قراءة القارئ قائما في الصلاة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن المثنى قال : ثنا يحيى عن عبيد الله أنه قال : أخبرني نافع عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن القنوت قال : لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام ، وقرأ : ( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما )

وقال آخرون : هو الطاعة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( أمن هو قانت ) يعني بالقنوت : الطاعة ، وذلك أنه قال : ( ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ) . . . إلى ( كل له قانتون ) قال : مطيعون .

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي في قوله : ( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما ) قال : القانت : المطيع .

[ ص: 268 ] وقوله : ( آناء الليل ) يعني : ساعات الليل .

كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( أمن هو قانت آناء الليل ) أوله ، وأوسطه ، وآخره .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( آناء الليل ) قال : ساعات الليل .

وقد مضى بياننا عن معنى الآناء بشواهده ، وحكاية أقوال أهل التأويل فيها بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وقوله : ( ساجدا وقائما ) يقول : يقنت ساجدا أحيانا ، وأحيانا قائما ، يعني : يطيع ، والقنوت عندنا الطاعة ، ولذلك نصب قوله : ( ساجدا وقائما ) لأن معناه : أمن هو يقنت آناء الليل ساجدا طورا ، وقائما طورا ، فهما حال من قانت .

وقوله : ( يحذر الآخرة ) يقول : يحذر عذاب الآخرة . كما حدثنا علي بن الحسن الأزدي . قال : ثنا يحيى بن اليمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : ( يحذر الآخرة ) قال : يحذر عقاب الآخرة ، ويرجو رحمة ربه ، يقول : ويرجو أن يرحمه الله فيدخله الجنة .

وقوله : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) يقول - تعالى ذكره - : قل يا محمد لقومك : هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب ، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات ، والذين لا يعلمون ذلك ، فهم يخبطون في عشواء ، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا ، ولا يخافون بسيئها شرا ؟ يقول : ما هذان بمتساويين .

وقد روي عن أبي جعفر محمد بن علي في ذلك ما حدثني محمد بن خلف قال : ثني نصر بن مزاحم قال : ثنا سفيان الجريري عن سعيد بن أبي مجاهد عن جابر عن أبي جعفر رضوان الله عليه ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) قال : نحن الذين يعلمون ، وعدونا الذين لا يعلمون .

[ ص: 269 ] وقوله : ( إنما يتذكر أولو الألباب ) يقول - تعالى ذكره - : إنما يعتبر حجج الله ، فيتعظ ، ويتفكر فيها ، ويتدبرها - أهل العقول والحجا ، لا أهل الجهل والنقص في العقول .

التالي السابق


الخدمات العلمية