صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( 39 ) وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ( 40 ) )

يقول - تعالى ذكره - : والذين إذا بغى عليهم باغ ، واعتدى عليهم هم ينتصرون .

ثم اختلف أهل التأويل في الباغي الذي حمد - تعالى ذكره - المنتصر منه بعد بغيه عليه ، فقال بعضهم : هو المشرك إذا بغى على المسلم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس قال : أخبرني ابن وهب قال : قال ابن زيد : ذكر المهاجرين صنفين ، صنفا عفا ، وصنفا انتصر ، وقرأ ( ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) قال : فبدأ بهم ( والذين استجابوا لربهم ) . . . إلى قوله : ( ومما رزقناهم ينفقون ) وهم الأنصار . ثم ذكر الصنف الثالث فقال : ( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ) من المشركين .

وقال آخرون : بل هو كل باغ بغى فحمد المنتصر منه

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، فى قوله : ( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ) قال : ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا .

وهذا القول الثاني أولى في ذلك بالصواب ، لأن الله لم يخصص من ذلك معنى دون معنى ، بل حمد كل منتصر بحق ممن بغى عليه .

فإن قال قائل : وما في الانتصار من المدح ؟ قيل : إن في إقامة الظالم على سبيل الحق وعقوبته بما هو له أهل تقويما له ، وفي ذلك أعظم المدح .

وقوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) وقد بينا فيما مضى معنى ذلك ، وأن معناه : وجزاء سيئة المسيء عقوبته بما أوجبه الله عليه ، فهي وإن كانت عقوبة من الله أوجبها عليه ، فهي مساءة له . والسيئة : إنما هي الفعلة من السوء ، وذلك نظير قول الله عز وجل ( ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ) وقد قيل : إن معنى ذلك : أن يجاب القائل الكلمة القزعة بمثلها .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب قال : قال لي أبو بشر : سمعت . ابن أبي نجيح يقول في قوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) قال : يقول أخزاه الله ، فيقول : أخزاه الله .

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) قال : إذا شتمك بشتمة فاشتمه مثلها من غير أن تعتدي . [ ص: 548 ]

وكان ابن زيد يقول في ذلك بما حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في : ( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ) من المشركين ( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح ) . . . الآية ، ليس أمركم أن تعفوا عنهم لأنه أحبهم ( ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ) ، ثم نسخ هذا كله وأمره بالجهاد .

فعلى قول ابن زيد هذا تأويل الكلام : وجزاء سيئة من المشركين إليك ، سيئة مثلها منكم إليهم ، وإن عفوتم وأصلحتم في العفو ، فأجركم في عفوكم عنهم إلى الله ، إنه لا يحب الكافرين؛ وهذا على قوله كقول الله عز وجل ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله ) وللذي قال من ذلك وجه . غير أن الصواب عندنا : أن تحمل الآية على الظاهر ما لم ينقله إلى الباطن ما يجب التسليم لها ، ولم يثبت حجة في قوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) أنه مراد به المشركون دون المسلمين ، ولا بأن هذه الآية منسوخة ، فنسلم لها بأن ذلك كذلك .

وقوله : ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) يقول - جل ثناؤه - : فمن عفا عمن أساء إليه إساءته إليه ، فغفرها له ، ولم يعاقبه بها ، وهو على عقوبته عليها قادر ابتغاء وجه الله ، فأجر عفوه ذلك على الله ، والله مثيبه عليه ثوابه . ( إنه لا يحب الظالمين ) يقول : إن الله لا يحب أهل الظلم الذين يتعدون على الناس ، فيسيئون إليهم بغير ما أذن الله لهم فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية