صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ( 56 ) ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ( 57 ) )

اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الكوفة غير عاصم [ ص: 623 ] " فجعلناهم سلفا " بضم السين واللام ، توجيها ذلك منهم إلى جمع سليف من الناس ، وهو المتقدم أمام القوم . وحكى الفراء أنه سمع القاسم بن معن يذكر أنه سمع العرب تقول : مضى سليف من الناس . وقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وعاصم : ( فجعلناهم سلفا ) بفتح السين واللام .

وإذا قرئ كذلك احتمل أن يكون مرادا به الجماعة والواحد والذكر والأنثى ، لأنه يقال للقوم : أنتم لنا سلف ، وقد يجمع فيقال : هم أسلاف؛ ومنه الخبر الذي روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يذهب الصالحون أسلافا " .

وكان حميد الأعرج يقرأ ذلك : " فجعلناهم سلفا " بضم السين وفتح اللام ، توجيها منه ذلك إلى جمع سلفة من الناس ، مثل أمة منهم وقطعة .

وأولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بفتح السين واللام ، لأنها اللغة الجوداء ، والكلام المعروف عند العرب ، وأحق اللغات أن يقرأ بها كتاب الله من لغات العرب أفصحها وأشهرها فيهم . فتأويل الكلام إذن : فجعلنا هؤلاء الذين أغرقناهم من قوم فرعون في البحر مقدمة يتقدمون إلى النار ، كفار قومك يا محمد من قريش ، وكفار قومك لهم بالأثر .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ) قال : قوم فرعون كفارهم سلفا لكفار أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فجعلناهم سلفا ) في النار .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر : ( فجعلناهم سلفا ) [ ص: 624 ] قال : سلفا إلى النار .

وقوله : ( ومثلا للآخرين ) يقول : وعبرة وعظة يتعظ بهم من بعدهم من الأمم ، فينتهوا عن الكفر بالله . وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، مجاهد ( ومثلا للآخرين ) قال : عبرة لمن بعدهم .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا أبو ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( ومثلا للآخرين ) : أي عظة للآخرين .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ومثلا للآخرين ) : أي عظة لمن بعدهم .

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( فجعلناهم سلفا ومثلا ) قال : عبرة .

وقوله : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا ) يقول - تعالى ذكره - : ولما شبه الله عيسى في إحداثه وإنشائه إياه من غير فحل بآدم ، فمثله به بأنه خلقه من تراب من غير فحل ، إذا قومك يا محمد من ذلك يضجون ويقولون : ما يريد محمد منا إلا أن نتخذه إلها نعبده ، كما عبدت النصارى المسيح .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا فيه .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال ثنا أبو عاصم قال ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله عز وجل : ( إذا قومك منه يصدون ) قال : يضجون؛ قال : قالت قريش : إنما يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى . [ ص: 625 ]

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : لما ذكر عيسى ابن مريم جزعت قريش من ذلك ، وقالوا : يا محمد ما ذكرت عيسى ابن مريم وقالوا : ما يريد محمد إلا أن نصنع به كما صنعت النصارى بعيسى ابن مريم ، فقال الله عز وجل : ( ما ضربوه لك إلا جدلا ) .

حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : لما ذكر عيسى في القرآن قال مشركو قريش : يا محمد ما أردت إلى ذكر عيسى ؟ قال : وقالوا : إنما يريد أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى .

وقال آخرون : بل عنى بذلك قول الله عز وجل ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) قيل المشركين عند نزولها : قد رضينا بأن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة ، لأن كل هؤلاء مما يعبد من دون الله ، قال الله عز وجل : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ) وقالوا : أآلهتنا خير أم هو ؟ .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، ثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ) قال : يعني قريشا لما قيل لهم ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) فقالت له قريش : فما ابن مريم ؟ قال : ذاك عبد الله ورسوله ، فقالوا : والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربا ، فقال الله عز وجل : ( ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ) .

واختلفت القراء في قراءة قوله : ( يصدون ) فقرأته عامة قراء المدينة ، وجماعة من قراء الكوفة : " يصدون " بضم الصاد . وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة [ ص: 626 ] والبصرة ( يصدون ) بكسر الصاد .

واختلف أهل العلم بكلام العرب في فرق ما بين ذلك إذا قرئ بضم الصاد ، وإذا قرئ بكسرها ، فقال بعض نحويي البصرة ، ووافقه عليه بعض الكوفيين : هما لغتان بمعنى واحد ، مثل يشد ويشد ، وينم وينم من النميمة . وقال آخر : منهم من كسر الصاد فمجازها يضجون ، ومن ضمها فمجازها يعدلون . وقال بعض من كسرها : فإنه أراد يضجون ، ومن ضمها فإنه أراد الصدود عن الحق .

وحدثت عن الفراء قال : ثني أبو بكر بن عياش ، أن عاصما ترك يصدون من قراءة أبي عبد الرحمن ، وقرأ يصدون ، قال : قال أبو بكر . حدثني عاصم ، عن أبي رزين ، عن أبي يحيى ، أن ابن عباس لقي ابن أخي عبيد بن عمير ، فقال : إن عمك لعربي ، فما له يلحن في قوله : " إذا قومك منه يصدون " وإنما هي ( يصدون ) .

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان ، ولغتان مشهورتان بمعنى واحد ، ولم نجد أهل التأويل فرقوا بين معنى ذلك إذا قرئ بالضم والكسر ، ولو كان مختلفا معناه ، لقد كان الاختلاف في تأويله بين أهله موجودا وجود اختلاف القراءة فيه باختلاف اللغتين ، ولكن لما لم يكن مختلف المعنى لم يختلفوا في أن تأويله : يضجون ويجزعون ، فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب .

ذكر ما قلنا في تأويل ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( إذا قومك منه يصدون ) قال : يضجون .

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( إذا قومك منه يصدون ) يقول : يضجون .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى بن واضح قال : ثنا أبو حمزة ، عن [ ص: 627 ] المغيرة الضبي ، عن الصعب بن عثمان قال : كان ابن عباس يقرأ ( إذا قومك منه يصدون ) ، وكان يفسرها يقول : يضجون .

ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس ( إذا قومك منه يصدون ) قال : يضجون .

حدثنا ابن المثنى قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة عن عاصم عن أبي رزين ، عن ابن عباس بمثله .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، في قول الله عز وجل : ( إذا قومك منه يصدون ) قال : يضجون .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( إذا قومك منه يصدون ) : أي يجزعون ويضجون .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس أنه قرأها ( يصدون ) : أي يضجون ، وقرأ علي رضي الله عنه ( يصدون ) .

حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( إذا قومك منه يصدون ) قال : يضجون .

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( إذا قومك منه يصدون ) قال : يضجون .

التالي السابق


الخدمات العلمية