صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( كذلك وزوجناهم بحور عين ( 54 ) يدعون فيها بكل فاكهة آمنين ( 55 ) لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم ( 56 ) فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم ( 57 ) )

يقول - تعالى ذكره - : كما أعطينا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة بإدخالنا لهم [ ص: 52 ] الجنات ، وإلباسنا لهم فيها السندس والإستبرق ، كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم أيضا فيها حورا من النساء ، وهن النقيات البياض ، واحدتهن : حوراء .

وكان مجاهد يقول في معنى الحور ما حدثني به محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( وزوجناهم بحور عين ) قال : أنكحناهم حورا . قال : والحور : اللاتي يحار فيهن الطرف ، باد مخ سوقهن من وراء ثيابهن ، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد ، وصفاء اللون . وهذا الذي قاله مجاهد من أن الحور إنما معناها : أنه يحار فيها الطرف قول لا معنى له في كلام العرب ؛ لأن الحور إنما هو جمع حوراء ، كالحمر جمع حمراء ، والسود : جمع سوداء ، والحوراء إنما هي فعلاء من الحور وهو نقاء البياض ، كما قيل للنقي البياض من الطعام الحواري . وقد بينا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل .

وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال سائر أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( كذلك وزوجناهم بحور عين ) قال : بيضاء عيناء ، قال : وفي قراءة ابن مسعود ( بعيس عين ) .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله ( بحور عين ) قال : بيض عين ، قال : وفي حرف ابن مسعود ( بعيس عين ) . وقرأ ابن مسعود هذه ، يعني أن معنى الحور غير الذي ذهب إليه مجاهد ، لأن العيس عند العرب جمع عيساء ، وهي البيضاء من الإبل ، كما قال الأعشى :


ومهمه نازح تعوي الذئاب به كلفت أعيس تحت الرحل نعابا

[ ص: 53 ]

يعني بالأعيس : جملا أبيض . فأما العين فإنها جمع عيناء ، وهي العظيمة العينين من النساء .

وقوله ( يدعون فيها ) . . . الآية ، يقول : يدعو هؤلاء المتقون في الجنة بكل نوع من فواكه الجنة اشتهوه ، آمنين فيها من انقطاع ذلك عنهم ونفاده وفنائه ، ومن غائلة أذاه ومكروهه ، يقول : ليست تلك الفاكهة هنالك كفاكهة الدنيا التي نأكلها ، وهم يخافون مكروه عاقبتها ، وغب أذاها مع نفادها من عندهم ، وعدمها في بعض الأزمنة والأوقات .

وكان قتادة يوجه تأويل قوله : ( آمنين ) إلى ما حدثنا به بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( يدعون فيها بكل فاكهة آمنين ) أمنوا من الموت والأوصاب والشيطان .

وقوله : ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) يقول - تعالى ذكره - : لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا .

وكان بعض أهل العربية يوجه " إلا" في هذا الموضع إلى أنها في معنى سوى ، ويقول : معنى الكلام : لا يذوقون فيها الموت سوى الموتة الأولى ، ويمثله بقوله - تعالى ذكره - : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) بمعنى : سوى ما قد فعل آباؤكم ، وليس للذي قال من ذلك عندي وجه مفهوم ؛ لأن الأغلب من قول القائل : لا أذوق اليوم الطعام إلا الطعام الذي ذقته قبل اليوم أنه يريد الخبر عن قائله أن عنده طعاما في ذلك اليوم ذائقه وطاعمه دون سائر الأطعمة غيره .

وإذ كان ذلك الأغلب من معناه وجب أن يكون قد أثبت [ ص: 54 ] بقوله ( إلا الموتة الأولى ) موتة من نوع الأولى هم ذائقوها ، ومعلوم أن ذلك ليس كذلك ؛ لأن الله - عز وجل - قد آمن أهل الجنة في الجنة إذا هم دخلوها من الموت ، ولكن ذلك كما وصفت من معناه . وإنما جاز أن توضع " إلا" في موضع " بعد" لتقارب معنييهما في هذا الموضع وذلك أن القائل إذا قال : لا أكلم اليوم رجلا إلا رجلا بعد رجل عند عمرو قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلا بعد كلام الرجل الذي عند عمرو .

وكذلك إذا قال : لا أكلم اليوم رجلا بعد رجل عند عمرو ، قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلا إلا رجلا عند عمرو ، فبعد ، وإلا متقاربتا المعنى في هذا الموضع . ومن شأن العرب أن تضع الكلمة مكان غيرها إذا تقارب معنياهما ، وذلك كوضعهم الرجاء مكان الخوف لما في معنى الرجاء من الخوف ؛ لأن الرجاء ليس بيقين ، وإنما هو طمع ، وقد يصدق ويكذب كما الخوف يصدق أحيانا ويكذب ، فقال في ذلك أبو ذؤيب :


إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها     وخالفها في بيت نوب عوامل



فقال : لم يرج لسعها ، ومعناه في ذلك : لم يخف لسعها ، وكوضعهم الظن موضع العلم الذي لم يدرك من قبل العيان ، وإنما أدرك استدلالا أو خبرا ، كما قال الشاعر :


فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج     سراتهم في الفارسي المسرد

[ ص: 55 ]

بمعنى : أيقنوا بألفي مدجج واعلموا ، فوضع الظن موضع اليقين ، إذ لم يكن المقول لهم ذلك قد عاينوا ألفي مدجج ، ولا رأوهم ، وإنما أخبرهم به هذا المخبر ، فقال لهم ظنوا العلم بما لم يعاين من فعل القلب ، فوضع أحدهما موضع الآخر لتقارب معنييهما في نظائر لما ذكرت يكثر إحصاؤها ، كما يتقارب معنى الكلمتين في بعض المعاني ، وهما مختلفتا المعنى في أشياء أخر ، فتضع العرب إحداهما مكان صاحبتها في الموضع الذي يتقارب معنياهما فيه .

فكذلك قوله ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) وضعت " إلا" في موضع " بعد" لما نصف من تقارب معنى" إلا" ، و" بعد" في هذا الموضع ، وكذلك ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) إنما معناه : بعد الذي سلف منكم في الجاهلية ، فأما إذا وجهت " إلا" في هذا الموضع إلى معنى سوى ، فإنما هو ترجمة عن المكان ، وبيان عنها بما هو أشد التباسا على من أراد علم معناها منها .

وقوله ( ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ) يقول - تعالى ذكره - : ووقى هؤلاء المتقين ربهم يومئذ عذاب النار تفضلا يا محمد من ربك عليهم ، وإحسانا منه عليهم بذلك ، ولم يعاقبهم بجرم سلف منهم في الدنيا ، ولولا تفضله عليهم بصفحه لهم عن العقوبة لهم على ما سلف منهم من ذلك ، لم يقهم عذاب الجحيم ، ولكن كان ينالهم ويصيبهم ألمه ومكروهه .

وقوله ( ذلك هو الفوز العظيم ) يقول - تعالى ذكره - : هذا الذي أعطينا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة التي وصفت في هذه الآيات ، هو الفوز العظيم : يقول : هو الظفر العظيم بما كانوا يطلبون من إدراكه في الدنيا بأعمالهم وطاعتهم لربهم ، واتقائهم إياه ، فيما امتحنهم به من الطاعات والفرائض ، واجتناب المحارم .

التالي السابق


الخدمات العلمية