صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم ( 14 ) )

يقول - تعالى ذكره - : قالت الأعراب : صدقنا بالله ورسوله ، فنحن مؤمنون ، قال الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : قل يا محمد لهم ( لم تؤمنوا ) ولستم مؤمنين ( ولكن قولوا أسلمنا ) .

وذكر أن هذه الآية نزلت في أعراب من بني أسد .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن [ ص: 314 ] أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله ( قالت الأعراب آمنا ) قال : أعراب بنى أسد بن خزيمة .

واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : قل لهؤلاء الأعراب : قولوا أسلمنا ، ولا تقولوا آمنا ، فقال بعضهم : إنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، لأن القوم كانوا صدقوا بألسنتهم ، ولم يصدقوا قولهم بفعلهم ، فقيل لهم : قولوا أسلمنا ، لأن الإسلام قول ، والإيمان قول وعمل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) قال : إن الإسلام : الكلمة ، والإيمان : العمل .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، وأخبرني الزهري ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه ، قال : أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا ، فقال سعد : يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا ، ولم تعط فلانا شيئا ، وهو مؤمن ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أو مسلم؟ حتى أعادها سعد ثلاثا ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : أو مسلم ، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إني أعطي رجالا وأدع من هو أحب إلي منهم ، لا أعطيه شيئا مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم " .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ) قال : لم يصدقوا إيمانهم بأعمالهم ، فرد الله ذلك عليهم ( قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) ، وأخبرهم أن المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، أولئك هم الصادقون ، صدقوا إيمانهم بأعمالهم; فمن قال منهم : أنا مؤمن فقد صدق; قال : وأما من انتحل الإيمان بالكلام ولم يعمل فقد كذب ، وليس بصادق . [ ص: 315 ]

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ( ولكن قولوا أسلمنا ) قال : هو الإسلام .

وقال آخرون : إنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقيل ذلك لهم ، لأنهم أرادوا أن يتسموا بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا ، فأعلمهم الله أن لهم أسماء الأعراب ، لا أسماء المهاجرين .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( قالت الأعراب آمنا ) . . . الآية ، وذلك أنهم أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة ، ولا يتسموا بأسمائهم التي سماهم الله ، وكان ذلك في أول الهجرة قبل أن تنزل المواريث لهم .

وقال آخرون : قيل لهم ذلك لأنهم منوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامهم ، فقال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : قل لهم لم تؤمنوا ، ولكن استسلمتم خوف السباء والقتل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ) ولعمري ما عمت هذه الآية الأعراب ، إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ، ولكن إنما أنزلت في حي من أحياء الأعراب امتنوا بإسلامهم على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : أسلمنا ، ولم نقاتلك ، كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، فقال الله : ( لا تقولوا آمنا ) ، ( ولكن قولوا أسلمنا ) حتى بلغ ( في قلوبكم ) .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) قال : لم تعم هذه الآية الأعراب ، إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله ، ولكنها في طوائف [ ص: 316 ] من الأعراب .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن رباح ، عن أبي معروف ، عن سعيد بن جبير ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) قال : استسلمنا لخوف السباء والقتل .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ( قولوا أسلمنا ) قال : استسلمنا .

حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، وقرأ قول الله ( قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) استسلمنا : دخلنا في السلم ، وتركنا المحاربة والقتال بقولهم : لا إله إلا الله ، وقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوا لا إله إلا الله ، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " .

وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن الزهري ، وهو أن الله تقدم إلى هؤلاء الأعراب الذين دخلوا في الملة إقرارا منهم بالقول ، ولم يحققوا قولهم بعملهم أن يقولوا بالإطلاق آمنا دون تقييد قولهم بذلك بأن يقولوا آمنا بالله ورسوله ، ولكن أمرهم أن يقولوا القول الذي لا يشكل على سامعيه والذي قائله فيه محق ، وهو أن يقولوا أسلمنا ، بمعنى : دخلنا في الملة والأموال ، والشهادة الحق .

قوله ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) يقول - تعالى ذكره - : ولما يدخل العلم بشرائع الإيمان ، وحقائق معانيه في قلوبكم .

وقوله ( وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ) يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : قل لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم ، إن تطيعوا الله ورسوله أيها القوم ، فتأتمروا لأمره وأمر رسوله ، [ ص: 317 ] وتعملوا بما فرض عليكم ، وتنتهوا عما نهاكم عنه ، ( لا يلتكم من أعمالكم شيئا ) يقول : لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئا ولا ينقصكم من ثوابها شيئا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( لا يلتكم ) لا ينقصكم .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( لا يلتكم من أعمالكم شيئا ) يقول : لن يظلمكم من أعمالكم شيئا .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في ( وإن تطيعوا الله ورسوله ) قال : إن تصدقوا إيمانكم بأعمالكم يقبل ذلك منكم .

وقرأت قراء الأمصار ( لا يلتكم من أعمالكم ) بغير همز ولا ألف ، سوى أبي عمرو ، فإنه قرأ ذلك ( لا يألتكم ) بألف اعتبارا منه في ذلك بقوله ( وما ألتناهم من عملهم من شيء ) فمن قال : ألت ، قال : يألت .

وأما الآخرون فإنهم جعلوا ذلك من لات يليت ، كما قال رؤبة بن العجاج :


وليلة ذات ندى سريت ولم يلتني عن سراها ليت

والصواب من القراءة عندنا في ذلك ، ما عليه قراء المدينة والكوفة ( لا يلتكم ) بغير ألف ولا همز ، على لغة من قال : لات يليت ، لعلتين ؛ إحداهما : إجماع الحجة من القراء عليها . والثانية : أنها في المصحف بغير ألف ، ولا تسقط الهمزة في مثل هذا الموضع ، لأنها ساكنة ، والهمزة إذا سكنت ثبتت ، كما يقال : [ ص: 318 ] تأمرون وتأكلون ، وإنما تسقط إذا سكن ما قبلها ، ولا يحمل حرف في القرآن إذا أتى بلغة على آخر جاء بلغة خلافها إذا كانت اللغتان معروفتين في كلام العرب . وقد ذكرنا أن ألت ولات لغتان معروفتان من كلامهم .

وقوله ( إن الله غفور رحيم ) يقول - تعالى ذكره - : إن الله ذو عفو أيها الأعراب لمن أطاعه ، وتاب إليه من سالف ذنوبه ، فأطيعوه ، وانتهوا إلى أمره ونهيه ، يغفر لكم ذنوبكم ، رحيم بخلقه التائبين إليه أن يعاقبهم بعد توبتهم من ذنوبهم على ما تابوا منه ، فتوبوا إليه يرحمكم .

كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( إن الله غفور رحيم ) غفور للذنوب الكثيرة أو الكبيرة ، شك يزيد ، رحيم بعباده .

التالي السابق


الخدمات العلمية