صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ثم دنا فتدلى ( 8 ) فكان قاب قوسين أو أدنى ( 9 ) فأوحى إلى عبده ما أوحى ( 10 ) ما كذب الفؤاد ما رأى ( 11 ) )

يقول - تعالى ذكره - : ثم دنا جبريل من محمد - صلى الله عليه وسلم - فتدلى إليه ، وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم ، وإنما هو : ثم تدلى فدنا ، ولكنه حسن تقديم قوله ( دنا ) ، إذ كان الدنو يدل على التدلي والتدلي على الدنو ، كما يقال : زارني فلان فأحسن وأحسن إلي فزارني ، وشتمني فأساء وأساء فشتمني لأن الإساءة هي الشتم والشتم هو الإساءة . [ ص: 502 ]

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ( ثم دنا فتدلى ) قال : جبريل عليه السلام .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ثم دنا فتدلى ) يعني : جبريل .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ( ثم دنا فتدلى ) قال : هو جبريل عليه السلام .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم دنا الرب من محمد - صلى الله عليه وسلم - فتدلى .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا يحيى بن الأموي قال : ثنا أبي ، قال : ثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن ابن عباس ( ثم دنا فتدلى ) قال : دنا ربه فتدلى .

حدثنا الربيع قال : ثنا ابن وهب ، عن سليمان بن بلال ، عن شريك بن أبي نمر قال : سمعت أنس بن مالك يحدثنا عن ليلة المسرى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أنه عرج جبرائيل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء السابعة ، ثم علا به بما لا يعلمه إلا الله ، حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى الله إليه ما شاء ، فأوحى الله إليه فيما أوحى خمسين صلاة على أمته كل يوم وليلة ، وذكر الحديث " .

وقوله ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) يقول : فكان جبرائيل من محمد - صلى الله عليه وسلم - على قدر قوسين ، أو أدنى من ذلك ، يعني : أو أقرب منه ، يقال : هو منه قاب قوسين ، وقيب قوسين ، وقيد قوسين ، وقاد قوسين ، وقدى قوسين ، كل ذلك بمعنى قدر قوسين . [ ص: 503 ]

وقيل : إن معنى قوله ( فكان قاب قوسين ) أنه كان منه حيث الوتر من القوس .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( قاب قوسين ) قال : حيث الوتر من القوس .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ( فكان قاب قوسين ) قال : قيد قوسين .

وقال ذلك قتادة .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ( فكان قاب قوسين ) قال : قيد ، أو قدر قوسين .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا أبو معاوية ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله فكان قاب قوسين أو أدنى : قال : دنا جبريل عليه السلام منه حتى كان قدر ذراع أو ذراعين .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عاصم ، عن أبي رزين ( قاب قوسين ) قال : ليست بهذه القوس ، ولكن قدر الذراعين أو أدنى; والقاب : هو القيد .

واختلف أهل التأويل في المعني بقوله ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) فقال بعضهم : في ذلك ، بنحو الذي قلنا فيه .

حدثنا ابن أبي الشوارب قال : ثنا عبد الواحد بن زياد قال : ثنا سليمان الشيباني قال : ثنا زر بن حبيش قال : قال عبد الله في هذه الآية ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " رأيت جبريل [ ص: 504 ] له ست مئة جناح " .

حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن الشيباني ، عن زر ، عن ابن مسعود في قوله ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) قال : رأى جبرائيل له ست مئة جناح في صورته .

حدثنا محمد بن عبيد قال : ثنا قبيص بن ليث الأسدي ، عن الشيباني ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) قال : رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام له ست مئة جناح .

حدثنا ابن وكيع قال : ثنا ابن وهب قال : ثنا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان أول شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى في منامه جبريل عليه السلام بأجياد ، ثم إنه خرج ليقضي حاجته ، فصرخ به جبريل : يا محمد ; فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينا وشمالا فلم ير شيئا ثلاثا; ثم خرج فرآه ، فدخل في الناس ، ثم خرج ، أو قال : ثم نظر " أنا أشك " ، فرآه ، فذلك قوله : ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى ) . . . إلى قوله : ( فتدلى ) جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) يقول : القاب : نصف الأصبع . وقال بعضهم : ذراعين كان بينهما .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن زر بن حبيش ، عن ابن مسعود ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) قال : له ست مئة جناح ، يعني جبريل عليه السلام .

حدثنا إبراهيم بن سعيد قال : ثنا أبو أسامة قال : ثنا زكريا ، عن ابن أشوع ، عن عامر ، عن مسروق قال : قلت لعائشة : ما قوله ( ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ) فقالت : إنما ذلك جبريل ، كان يأتيه في صورة الرجال ، وإنه أتاه في هذه المرة في صورته ، [ ص: 505 ] فسد أفق السماء .

وقال آخرون : بل الذي دنا فكان قاب قوسين أو أدنى : جبريل من ربه .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) قال : الله من جبريل عليه السلام .

وقال آخرون : بل كان الذي كان قاب قوسين أو أدنى : محمد من ربه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن موسى بن عبيد الحميري ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قلنا يا نبي الله : هل رأيت ربك ؟ قال : " لم أره بعيني ، ورأيته بفؤادي مرتين " ، ثم تلا ( ثم دنا فتدلى ) .

حدثنا خلاد بن أسلم قال : أخبرنا النضر قال : أخبرنا محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي ، عن كثير ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لما عرج بي ، مضى جبريل حتى جاء الجنة ، قال : فدخلت فأعطيت الكوثر ، ثم مضى حتى جاء السدرة المنتهى ، فدنا ربك فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى " .

وقوله ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فأوحى الله إلى عبده محمد وحيه ، وجعلوا قوله : ( ما أوحى ) بمعنى المصدر . [ ص: 506 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار قال : ثنا معاذ بن هشام قال : ثنا أبي ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) قال : عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى إليه ربه .

وقد يتوجه على هذا التأويل " ما " للوجهين : أحدهما : أن تكون بمعنى" الذي " ، فيكون معنى الكلام : فأوحى إلى عبده الذي أوحاه إليه ربه . والآخر : أن يكون بمعنى المصدر .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار قال : ثنا معاذ بن هشام قال : ثني أبي ، عن قتادة ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) ، قال الحسن : جبريل .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) قال : على لسان جبريل .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام ، عن أبى جعفر ، عن الربيع ، مثله .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) قال : أوحى جبريل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى الله إليه .

وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : معنى ذلك : فأوحى جبريل إلى عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى إليه ربه ، لأن افتتاح الكلام جرى في أول السورة بالخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعن جبريل عليه السلام ، وقوله ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) في سياق ذلك ولم يأت ما يدل على انصراف الخبر عنهما ، فيوجه ذلك إلى ما صرف إليه .

وقوله ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) يقول - تعالى ذكره - : ما كذب فؤاد محمد محمدا الذي رأى ، ولكنه صدقه . [ ص: 507 ]

واختلف أهل التأويل في الذي رآه فؤاده فلم يكذبه ، فقال بعضهم : الذي رآه فؤاده رب العالمين ، وقالوا : جعل بصره في فؤاده ، فرآه بفؤاده ، ولم يره بعينه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا سعيد بن يحيى قال : ثني عمي سعيد بن عبد الرحمن بن سعيد ، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قال : رآه بقلبه - صلى الله عليه وسلم - .

حدثنا خلاد بن أسلم قال : أخبرنا النضر بن شميل قال : أخبر عباد - يعني ابن منصور - قال : سألت عكرمة ، عن قوله : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قال : أتريد أن أقول لك قد رآه ، نعم قد رآه ، ثم قد رآه ، ثم قد رآه حتى ينقطع النفس .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى بن واضح قال : ثنا عيسى بن عبيد قال : سمعت عكرمة ، وسئل هل رأى محمد ربه؟ ، قال : نعم ، قد رأى ربه .

قال : ثنا يحيى بن واضح قال : ثنا سالم مولى معاوية ، عن عكرمة ، مثله .

حدثنا أحمد بن عيسى التميمي قال : ثنا سليمان بن عمرو بن سيار قال : ثني أبي ، عن سعيد بن زربى عن عمرو بن سليمان ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " رأيت ربي في أحسن صورة ، فقال لي : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت : لا يا رب فوضع يده بين كتفي ، فوجدت بردها بين ثدي فعلمت ما في السماء والأرض فقلت : يا رب في الدرجات والكفارات ونقل الأقدام إلى الجمعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فقلت : يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما ، وفعلت وفعلت ؟ فقال : ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أضع عنك [ ص: 508 ] وزرك؟ ألم أفعل بك؟ ألم أفعل . قال : " فأفضى إلي بأشياء لم يؤذن لي أن أحدثكموها ; قال : فذلك قوله في كتابه يحدثكموه : ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى " فجعل نور بصري في فؤادي ، فنظرت إليه بفؤادي " .

حدثني محمد بن عمارة وأحمد بن هشام قالا : ثنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي صالح ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قال : رآه مرتين بفؤاده .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن عطية ، عن قيس ، عن عاصم الأحول ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة ، واصطفى موسى بالكلام ، واصطفى محمدا بالرؤية صلوات الله عليهم .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان عن الأعمش ، عن زياد بن الحصين ، عن أبي العالية عن ابن عباس ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قال : رآه بفؤاده .

قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق عمن سمع ابن عباس يقول ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قال : رأى محمد ربه .

قال : ثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ( ما كذب الفؤاد ) فلم يكذبه ( ما رأى ) قال : رأى ربه .

قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قال : رأى محمد ربه بفؤاده .

وقال آخرون : بل الذي رآه فؤاده فلم يكذبه جبريل عليه السلام .

ذكر من قال ذلك :

حدثني ابن بزيع البغدادي قال : ثنا إسحاق بن منصور قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قال : رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه حلتا رفرف قد ملأ [ ص: 509 ] ما بين السماء والأرض .

حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني قال : ثنا عمرو بن عاصم قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم عن زر ، عن عبد الله ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " رأيت جبريل عند سدرة المنتهى ، له ست مئة جناح ، ينفض من ريشه التهاويل الدر والياقوت " .

حدثنا أبو هشام الرفاعي ، وإبراهيم بن يعقوب قالا : ثنا زيد بن الحباب ، أن الحسين بن واقد ، حدثه قال : حدثني عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " رأيت جبريل عند سدرة المنتهى له ست مئة جناح " زاد الرفاعي في حديثه : ‍‍‍ فسألت عاصما عن الأجنحة ، فلم يخبرني ، فسألت أصحابي ، فقالوا : كل جناح ما بين المشرق والمغرب .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قال : رأى جبريل في صورته التي هي صورته ، قال : وهو الذي رآه نزلة أخرى .

واختلفت القراء في قراءة قوله ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) فقرأ ذلك عامة قراء المدينة ومكة والكوفة والبصرة ( كذب ) بالتخفيف ، غير عاصم الجحدري وأبي جعفر القارئ والحسن البصري فإنهم قرءوه " كذب " بالتشديد ، بمعنى : أن الفؤاد لم يكذب الذي رأى ، ولكنه جعله حقا وصدقا ‌ ، وقد يحتمل أن يكون معناه إذا قرئ كذلك : ما كذب صاحب الفؤاد ما رأى . وقد بينا معنى من قرأ ذلك بالتخفيف .

والذي هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بالتخفيف لإجماع الحجة من القراء عليه ، والأخرى غير مدفوعة صحتها لصحة معناها .

التالي السابق


الخدمات العلمية