صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( أفرأيت الذي تولى ( 33 ) وأعطى قليلا وأكدى ( 34 ) أعنده علم الغيب فهو يرى ( 35 ) أم لم ينبأ بما في صحف موسى ( 36 ) وإبراهيم الذي وفى ( 37 ) ألا تزر وازرة وزر أخرى ( 38 ) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ( 39 ) )

يقول - تعالى ذكره - : أفرأيت يا محمد الذي أدبر عن الإيمان بالله ، وأعرض [ ص: 541 ] عنه وعن دينه ، وأعطى صاحبه قليلا من ماله ، ثم منعه فلم يعطه ، فبخل عليه .

وذكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة من أجل أنه عاتبه بعض المشركين ، وكان قد اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على دينه ، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه شيئا من ماله ، ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الآخرة ، ففعل ، فأعطى الذي عاتبه على ذلك بعض ما كان ضمن له ، ثم بخل عليه ومنعه تمام ما ضمن له .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله ( وأكدى ) قال : الوليد بن المغيرة أعطى قليلا ثم أكدى .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( أفرأيت الذي تولى ) . . . إلى قوله ( فهو يرى ) قال : هذا رجل أسلم ، فلقيه بعض من يعيره فقال : أتركت دين الأشياخ وضللتهم ، وزعمت أنهم في النار ، كان ينبغي لك أن تنصرهم ، فكيف يفعل بآبائك ، فقال : إني خشيت عذاب الله ، فقال : أعطني شيئا ، وأنا أحمل كل عذاب كان عليك عنك ، فأعطاه شيئا ، فقال : زدني ، فتعاسر حتى أعطاه شيئا ، وكتب له كتابا ، وأشهد له ، فذلك قول الله ( أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى ) عاسره ( أعنده علم الغيب فهو يرى ) نزلت فيه هذه الآية .

وبنحو الذي قلنا في معنى قوله ( أكدى ) قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان الشيباني ، عن ثابت ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ( أعطى قليلا وأكدى ) قال : أعطى قليلا ثم انقطع . [ ص: 542 ]

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى ) يقول : أعطى قليلا ثم انقطع .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ( وأعطى قليلا وأكدى ) قال : انقطع فلا يعطي شيئا ، ألم تر إلى البئر يقال لها أكدت .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وأكدى ) : انقطع عطاؤه .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن طاوس وقتادة في قوله : ( وأكدى ) قال : أعطى قليلا ثم قطع ذلك .

قال : ثنا ابن ثور قال : ثنا معمر ، عن عكرمة مثل ذلك .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وأكدى ) أي بخل وانقطع عطاؤه .

حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( وأكدى ) يقول : انقطع عطاؤه .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( وأكدى ) عاسره ، والعرب تقول : حفر فلان فأكدى ، وذلك إذا بلغ الكدية ، وهو أن يحفر الرجل في السهل ، ثم يستقبله جبل فيكدي ، يقال : قد أكدى كداء ، وكديت أظفاره وأصابعه كديا شديدا ، منقوص ، إذا غلظت ، وكديت أصابعه : إذا كلت فلم تعمل شيئا ، وكدا النبت إذا قل ريعه يهمز ولا يهمز . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : اشتق قوله : أكدى ، من كدية الركية ، وهو أن يحفر حتى ييأس من الماء ، فيقال حينئذ [ ص: 543 ] بلغنا كديتها .

وقوله ( أعنده علم الغيب فهو يرى ) يقول - تعالى ذكره - : أعند هذا الذي ضمن له صاحبه أن يتحمل عنه عذاب الله في الآخرة علم الغيب ، فهو يرى حقيقة قوله ، ووفائه بما وعده .

وقوله ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى ) يقول - تعالى ذكره - : أم لم يخبر هذا المضمون له ، أن يتحمل عنه عذاب الله في الآخرة ، بالذي في صحف موسى بن عمران عليه السلام .

وقوله ( وإبراهيم الذي وفى ) يقول : وإبراهيم الذي وفى من أرسل إليه ما أرسل به .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى " الذي وفى " ، فقال بعضهم : وفاؤه بما عهد إليه ربه من تبليغ رسالاته ، وهو ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ( وإبراهيم الذي وفى ) قال : كانوا قبل إبراهيم يأخذون الولي بالولي ، حتى كان إبراهيم ، فبلغ ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) لا يؤاخذ أحد بذنب غيره .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن عكرمة ( وإبراهيم الذي وفى ) قالوا : بلغ هذه الآيات ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( وإبراهيم الذي وفى ) قال : وفى طاعة الله ، وبلغ رسالات ربه إلى خلقه .

وكان عكرمة يقول : وفى هؤلاء الآيات العشر ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) . . . حتى بلغ ( وأن عليه النشأة الأخرى ) . [ ص: 544 ]

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله ( وإبراهيم الذي وفى ) وفى طاعة الله ورسالاته إلى خلقه .

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال : ثنا أبو بكير ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير في قوله ( وإبراهيم الذي وفى ) قال : بلغ ما أمر به .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ( وإبراهيم الذي وفى ) قال : بلغ .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( وإبراهيم الذي وفى ) قال : وفى : بلغ رسالات ربه ، بلغ ما أرسل به ، كما يبلغ الرجل ما أرسل به .

وقال آخرون : بل وفى بما رأى في المنام من ذبح ابنه ، وقالوا : قوله ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) من المؤخر الذي معناه التقديم ، وقالوا : معنى الكلام : أم لم ينبأ بما في صحف موسى ألا تزر وازرة وزر أخرى ، وبما في صحف إبراهيم الذي وفى .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ) يقول : إبراهيم الذي استكمل الطاعة فيما فعل بابنه حين رأى الرؤيا ، والذي في صحف موسى ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) . . . إلى آخر الآية .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن أبي صخر ، عن القرظي ، وسئل عن هذه الآية ( وإبراهيم الذي وفى ) قال : وفى بذبح ابنه .

وقال آخرون بل معنى ذلك : أنه وفى ربه جميع شرائع الإسلام . [ ص: 545 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال : ثنا علي بن الحسن قال : ثنا خارجة بن مصعب ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : الإسلام ثلاثون سهما . وما ابتلي بهذا الدين أحد فأقامه إلا إبراهيم ، قال الله ( وإبراهيم الذي وفى ) فكتب الله له براءة من النار .

حدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وإبراهيم الذي وفى ) ما فرض عليه .

وقال آخرون : وفى بما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخبر الذي

حدثنا أبو كريب قال : ثنا رشدين بن سعد قال : ثني زبان بن فائد ، عن سهل بن معاذ ، عن أنس ، عن أبيه ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : "

ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى : (
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ) حتى ختم الآية
" .

وقال آخرون : بل وفى ربه عمل يومه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب قال : ثنا الحسن بن عطية قال : ثنا إسرائيل ، عن جعفر بن الزبير عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإبراهيم الذي وفى ) قال : " أتدرون ما وفى " ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : وفى عمل يومه أربع ركعات في النهار " .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : وفى جميع شرائع الإسلام وجميع ما أمر به من الطاعة ، لأن الله - تعالى ذكره - أخبر عنه أنه وفى فعم بالخبر عن توفيته جميع الطاعة ، ولم يخصص بعضا دون بعض .

فإن قال قائل : فإنه خص ذلك بقوله وفى ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) فإن ذلك مما أخبر الله جل ثناؤه أنه في صحف موسى وإبراهيم ، لا مما خص [ ص: 546 ] به الخبر عن أنه وفى . وأما التوفية فإنها على العموم ، ولو صح الخبران اللذان ذكرناهما أو أحدهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لم نعد القول به إلى غيره ولكن في إسنادهما نظر يجب التثبت فيهما من أجله .

وقوله ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) فإن من قوله ( ألا تزر ) على التأويل الذي تأولناه في موضع خفض ردا على" ما " التي في قوله ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى ) يعني بقوله ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) غيرها ، بل كل آثمة فإنما إثمها عليها .

وقد بينا تأويل ذلك باختلاف أهل العلم فيه فيما مضى قبل .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال : ثنا أبو مالك الجنبي قال : ثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك الغفاري في قوله ( ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) إلى قوله ( من النذر الأولى ) قال : هذا في صحف إبراهيم وموسى .

وإنما عنى بقوله ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) الذي ضمن للوليد بن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة ، يقول : ألم يخبر قائل هذا القول ، وضامن هذا الضمان بالذي في صحفموسى وإبراهيم مكتوب : أن لا تأثم آثمة إثم أخرى غيرها ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) يقول جل ثناؤه : أو لم ينبأ أنه لا يجازى عامل إلا بعمله ، خيرا كان ذلك أو شرا .

كما حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) ، وقرأ ( إن سعيكم لشتى ) قال : أعمالكم .

وذكر عن ابن عباس أنه قال : هذه الآية منسوخة .

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن [ ص: 547 ] ابن عباس قوله ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) قال : فأنزل الله بعد هذا ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ) فأدخل الأبناء بصلاح الآباء الجنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية