صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ثلة من الأولين ( 39 ) وثلة من الآخرين ( 40 ) وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ( 41 ) في سموم وحميم ( 42 ) وظل من يحموم ( 43 ) لا بارد ولا كريم ( 44 ) إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ( 45 ) وكانوا يصرون على الحنث العظيم ( 46 ) )

يقول - تعالى ذكره - : الذين لهم هذه الكرامة التي وصف صفتها في هذه الآيات ثلتان ، وهي جماعتان وأمتان وفرقتان : ( ثلة من الأولين ) يعني جماعة من الذين مضوا قبل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - . ( وثلة من الآخرين ) يقول : وجماعة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقال به أهل التأويل .

ذكر الرواية بذلك :

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قال الحسن : ( ثلة من الأولين ) من الأمم ( وثلة من الآخرين ) : أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .

حدثنا محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن [ ص: 126 ] أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( ثلة من الأولين ) قال : أمة .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، قال ثنا قتادة قال : ثنا الحسن عن حديث عمران بن حصين ، عن عبد الله بن مسعود قال : " تحدثنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة حتى أكرينا في الحديث ، ثم رجعنا إلى أهلينا ، فلما أصبحنا غدونا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عرضت علي الأنبياء الليلة بأتباعها من أممها ، فكان النبي يجيء معه الثلة من أمته ، والنبي معه العصابة من أمته ، والنبي معه النفر من أمته ، والنبي معه الرجل من أمته ، والنبي ما معه من أمته أحد من قومه ، حتى أتى علي موسى بن عمران في كبكبة من بني إسرائيل فلما رأيتهم أعجبوني ، فقلت أي رب من هؤلاء ؟ قال : هذا أخوك موسى بن عمران ومن معه من بني إسرائيل فقلت رب ، فأين أمتي ؟ فقيل : انظر عن يمينك ، فإذا ظراب مكة قد سدت بوجوه الرجال فقلت : من هؤلاء ؟ قيل : هؤلاء أمتك ، فقيل : أرضيت ؟ فقلت : رب رضيت رب رضيت قيل : انظر عن يسارك ، فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال ، فقلت : رب من هؤلاء ؟ قيل : هؤلاء أمتك ، فقيل : أرضيت ؟ فقلت رضيت ، رب رضيت فقيل إن مع هؤلاء سبعين ألفا من أمتك يدخلون الجنة لا حساب عليهم قال : فأنشأ عكاشة بن محصن رجل من بني أسد بن خزيمة ، فقال : يا نبي الله ادع ربك أن يجعلني منهم قال : اللهم اجعله منهم ، ثم أنشأ رجل آخر فقال : يا نبي الله ادع ربك أن يجعلني منهم قال : سبقك بها عكاشة . فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : فدى لكم أبي وأمي إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا ، فإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الظراب ، فإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الأفق ، فإني رأيت ثم أناسا يتهرشون كثيرا ، أو قال يتهوشون قال : فتراجع المؤمنون ، أو قال [ ص: 127 ] فتراجعنا على هؤلاء السبعين ، فصار من أمرهم أن قالوا : نراهم ناسا ولدوا في الإسلام ، فلم يزالوا يعملون به حتى ماتوا عليه ، فنمى حديثهم ذاك إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ليس كذاك ، ولكنهم الذين لا يسترقون ، ولا يكتوون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون . ذكر أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومئذ : " إني لأرجو أن يكون من تبعني من أمتي ربع أهل الجنة ، فكبرنا ، ثم قال : إني‌‌‌ لأرجو أن تكونوا الشطر ، فكبرنا ، ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا الحسن بن بشر البجلي ، عن الحكم بن عبد الملك عن قتادة ، عن الحسن عن عمران بن حصين ، عن عبد الله بن مسعود قال : " تحدثنا ليلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أكرينا أو أكثرنا ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال : فإذا الظراب ظراب مكة مسدودة بوجوه الرجال . وقال أيضا : فإني رأيت عنده أناسا يتهاوشون كثيرا قال : فقلنا : من هؤلاء السبعون ألفا فاتفق رأينا على أنهم قوم ولدوا في الإسلام ويموتون عليه . قال : فذكرنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " لا ولكنهم قوم لا يكتوون " . وقال أيضا : ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " ، فكبر أصحابه ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، فكبر أصحابه ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ، ثم قرأ ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) " .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عوف ، عن عبد الله بن الحارث قال : كلهم في الجنة .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ [ ص: 128 ] قالوا : نعم قال : أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قالوا : نعم ، قال والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ، ثم تلا هذه الآية ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) " .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن بديل بن كعب أنه قال : أهل الجنة عشرون ومائة صف ، ثمانون صفا منها من هذه الأمة .

وفي رفع ( ثلة ) وجهان : أحدهما الاستئناف ، والآخر بقوله : لأصحاب اليمين ثلتان ، ثلة من الأولين . وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر من وجه عنه صحيح أنه قال : الثلتان جميعا من أمتي " .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبان بن أبي عياش عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هما جميعا من أمتي " .

وقوله : ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ) يقول - تعالى ذكره - معجبا نبيه محمدا من أهل النار ( وأصحاب الشمال ) الذين يؤخذ بهم ذات الشمال من موقف الحساب إلى النار ( ما أصحاب الشمال ) ماذا لهم ، وماذا أعد لهم ؟ .

كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ) : أي ماذا لهم ، وماذا أعد لهم .

وقوله : ( في سموم وحميم ) يقول : هم في سموم جهنم وحميمها .

وقوله : ( وظل من يحموم ) يقول - تعالى ذكره - : وظل من دخان شديد السواد . والعرب تقول لكل شيء وصفته بشدة السواد : أسود يحموم .

وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 129 ]

حدثني ابن أبي الشوارب قال : ثنا عبد الواحد بن زياد قال : ثنا سليمان الشيباني قال : ثني يزيد بن الأصم قال : سمعت ابن عباس يقول في ( وظل من يحموم ) قال : هو ظل الدخان .

حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال : ثنا قبيصة بن ليث ، عن الشيباني ، عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس مثله .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن إدريس قال : سمعت الشيباني ، عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس بمثله .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن الشيباني ، عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس ( وظل من يحموم ) قال : هو الدخان .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا إبراهيم بن طهمان ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ( وظل من يحموم ) قال : الدخان .

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( وظل من يحموم ) يقول : من دخان حميم .

حدثنا ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة ، أنه قال في هذه الآية ( وظل من يحموم ) قال : الدخان .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا عثام ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك في قوله : ( وظل من يحموم ) قال : دخان حميم .

حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال : ثنا ابن المبارك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك بمثله .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن [ ص: 130 ] مجاهد ( وظل من يحموم ) قال : الدخان .

قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد مثله .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( من يحموم ) قال : من دخان حميم .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن سليمان الشيباني ، عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس ، ومنصور ، عن مجاهد ( وظل من يحموم ) قالا : دخان .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( وظل من يحموم ) قال : من دخان .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد ، عن قتادة ( وظل من يحموم ) كنا نحدث أنها ظل الدخان .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( وظل من يحموم ) قال : ظل الدخان دخان جهنم ، زعم ذلك بعض أهل العلم .

وقوله : ( لا بارد ولا كريم ) يقول - تعالى ذكره - : ليس ذلك الظل ببارد ، كبرد ظلال سائر الأشياء ، ولكنه حار ؛ لأنه دخان من سعير جهنم ، وليس بكريم لأنه مؤلم من استظل به ، والعرب تتبع كل منفي عنه صفة حمد نفي الكرم عنه ، فتقول : ما هذا الطعام بطيب ولا كريم ، وما هذا اللحم بسمين ولا كريم ، وما هذه الدار بنظيفة ولا كريمة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال : ثنا النضر قال : ثنا جويبر ، عن [ ص: 131 ] الضحاك في قوله : ( لا بارد ولا كريم ) قال : كل شراب ليس بعذب فليس بكريم .

وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( لا بارد ولا كريم ) قال : لا بارد المنزل ، ولا كريم المنظر .

وقوله : ( إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ) يقول - تعالى ذكره - : إن هؤلاء الذين وصف صفتهم من أصحاب الشمال ، كانوا قبل أن يصيبهم من عذاب الله ما أصابهم في الدنيا مترفين ، يعني منعمين .

كما حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ) يقول : منعمين .

وقوله : ( وكانوا يصرون على الحنث العظيم ) يقول - جل ثناؤه - : وكانوا يقيمون على الذنب العظيم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد يصرون : يدمنون

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : يدهنون ، أو يدمنون .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( وكانوا يصرون ) قال : لا يتوبون ولا يستغفرون ، والإصرار عند العرب على الذنب : الإقامة عليه ، وترك الإقلاع عنه . [ ص: 132 ]

وقوله : ( على الحنث العظيم ) يعني : على الذنب العظيم ، وهو الشرك بالله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( على الحنث العظيم ) قال : على الذنب .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا أبو تميلة قال : ثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك في قوله : ( الحنث العظيم ) قال : الشرك .

حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( على الحنث العظيم ) يعني : الشرك .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( الحنث العظيم ) قال : الذنب .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ( وكانوا يصرون على الحنث العظيم ) قال : الحنث العظيم : الذنب العظيم قال : وذلك الذنب العظيم الشرك لا يتوبون ولا يستغفرون .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وكانوا يصرون على الحنث العظيم ) وهو الشرك .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ( على الحنث العظيم ) قال : الذنب العظيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية