صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير ( 4 ) )

يقول تعالى ذكره : إن تتوبا إلى الله أيتها المرأتان فقد مالت قلوبكما إلى محبة ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتنابه جاريته ، وتحريمها على نفسه ، أو تحريم ما كان له حلالا مما حرمه على نفسه بسبب حفصة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) يقول : زاغت قلوبكما ، يقول : قد أثمت قلوبكما .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا محمد بن طلحة ، عن زبيد ، عن مجاهد ، قال : كنا نرى أن قوله : ( فقد صغت قلوبكما ) شيء [ ص: 484 ] هين ، حتى سمعت قراءة ابن مسعود ( إن تتوبا إلى الله فقد زاغت قلوبكما ) .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فقد صغت قلوبكما ) : أي مالت قلوبكما .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن قتادة ( فقد صغت قلوبكما ) مالت قلوبكما .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فقد صغت قلوبكما ) يقول : زاغت .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ( صغت قلوبكما ) قال : زاغت قلوبكما .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد ، قال الله عز وجل : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) قال : سرهما أن يجتنب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته ، وذلك لهما موافق ( صغت قلوبكما ) إلى أن سرهما ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقوله : ( وإن تظاهرا عليه ) يقول تعالى ذكره للتي أسر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه ، والتي أفشت إليها حديثه ، وهما عائشة وحفصة رضي الله عنهما .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اللتين قال الله جل ثناؤه : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) قال : فحج عمر ، وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر ، وعدلت معه بإداوة ، ثم [ ص: 485 ] أتاني فسكبت على يده وتوضأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله لهما ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) قال عمر : واعجبا لك يا ابن عباس ، قال الزهري : وكره والله ما سأله ولم يكتم ، قال : هي حفصة وعائشة; قال : ثم أخذ يسوق الحديث ، فقال : كنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة ، ثم ذكر الحديث بطوله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن أشهب ، عن مالك ، عن أبي النضر ، عن علي بن حسين ، عن ابن عباس ، أنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المتظاهرتين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : عائشة وحفصة .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبيد بن حنين أنه سمع ابن عباس يقول : مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن المتظاهرتين ، فما أجد له موضعا أسأله فيه ، حتى خرج حاجا ، وصحبته حتى إذا كان بمر الظهران ذهب لحاجته ، وقال : أدركني بإداوة من ماء; فلما قضى حاجته ورجع ، أتيته بالإداوة أصبها عليه ، فرأيت موضعا ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، من المرأتان المتظاهرتان على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما قضيت كلامي حتى قال : عائشة وحفصة رضي الله عنهما .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا عمر بن يونس ، قال : ثنا عكرمة بن عمار ، قال : ثنا سماك أبو زميل ، قال : ثني عبد الله بن عباس ، قال : ثني عمر بن الخطاب ، قال : لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، دخلت عليه وأنا أرى في وجهه الغضب ، فقلت : يا رسول الله ما شق عليك من شأن النساء ، فلئن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته ، وجبرائيل وميكائيل ، وأنا وأبو بكر معك ، وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام ، إلا رجوت أن يكون الله مصدق قولي ، فنزلت هذه الآية ، آية التخيير : [ ص: 486 ] ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن ) ، ( وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ) . . . الآية ، وكانت عائشة ابنة أبي بكر وحفصة تتظاهران على سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وإن تظاهرا عليه ) يقول : على معصية النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال ابن عباس لعمر : يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن أمر وإني لأهابك ، قال : لا تهبني ، فقال : من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : عائشة وحفصة .

وقوله : ( فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ) يقول : فإن الله هو وليه وناصره ، وصالح المؤمنين ، وخيار المؤمنين أيضا مولاه وناصره .

وقيل : عني بصالح المؤمنين في هذا الموضع : أبو بكر ، وعمر رضي الله عنهما .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي بن الحسن الأزدي ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن عبد الوهاب ، عن مجاهد ، في قوله : ( وصالح المؤمنين ) قال : أبو بكر وعمر .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، في قوله : ( وصالح المؤمنين ) قال : خيار المؤمنين أبو بكر الصديق وعمر .

حدثنا إسحاق بن إسرائيل ، قال : ثنا الفضل بن موسى السيناني - من قرية بمرو يقال لها سينان - عن عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : ( وصالح المؤمنين ) قال : أبو بكر وعمر . [ ص: 487 ]

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وصالح المؤمنين ) يقول : خيار المؤمنين .

وقال آخرون : عني بصالح المؤمنين : الأنبياء صلوات الله عليهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وصالح المؤمنين ) قال : هم الأنبياء .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : ( وصالح المؤمنين ) قال : هم الأنبياء .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ( وصالح المؤمنين ) قال : الأنبياء .

والصواب من القول في ذلك عندي : أن قوله : ( وصالح المؤمنين ) وإن كان في لفظ واحد ، فإنه بمعنى الجميع ، وهو بمعنى قوله : ( إن الإنسان لفي خسر ) فالإنسان وإن كان في لفظ واحد ، فإنه بمعنى الجميع ، وهو نظير قول الرجل : لا تقرين إلا قارئ القرآن ، يقال : قارئ القرآن ، وإن كان في اللفظ واحدا ، فمعناه الجمع ، لأنه قد أذن لكل قارئ القرآن أن يقريه ، واحدا كان أو جماعة .

وقوله : ( والملائكة بعد ذلك ظهير ) يقول : والملائكة مع جبريل وصالح المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعوان على من أذاه ، وأراد مساءته . والظهير في هذا الموضع بلفظ واحد في معنى جمع . ولو أخرج بلفظ الجميع لقيل : والملائكة بعد ذلك ظهراء .

وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ) قال : وبدأ بصالح المؤمنين هاهنا قبل الملائكة ، قال : [ ص: 488 ] ( والملائكة بعد ذلك ظهير ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية