صفحة جزء
[ ص: 86 ]

[ ص: 87 ] تفسير سورة هل أتى على إلانسان

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ( 1 ) إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ( 2 ) ) .

يعني جل ثناؤه بقوله : ( هل أتى على الإنسان ) قد أتى على الإنسان ، وهل في هذا الموضع خبر لا جحد ، وذلك كقول القائل لآخر يقرره : هل أكرمتك ؟ وقد أكرمه; أو هل زرتك ؟ وقد زاره ، وقد تكون جحدا في غير هذا الموضع ، وذلك كقول القائل لآخر : هل يفعل مثل هذا أحد ؟ بمعنى : أنه لا يفعل ذلك أحد . والإنسان الذي قال جل ثناؤه في هذا الموضع : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر ) : هو آدم صلى الله عليه وسلم كذلك .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( هل أتى على الإنسان ) آدم أتى عليه ( حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) إنما خلق الإنسان هاهنا حديثا ، ما يعلم من خليقة الله كانت بعد الإنسان .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) قال : كان آدم صلى الله عليه وسلم آخر ما خلق من الخلق .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر ) قال : آدم .

وقوله : ( حين من الدهر ) اختلف أهل التأويل في قدر هذا الحين الذي ذكره الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هو أربعون سنة ، وقالوا : مكثت طينة آدم مصورة لا تنفخ [ ص: 88 ] فيها الروح أربعين عاما ، فذلك قدر الحين الذي ذكره الله في هذا الموضع ، قالوا : ولذلك قيل : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) لأنه أتى عليه وهو جسم مصور لم تنفخ فيه الروح أربعون عاما ، فكان شيئا ، غير أنه لم يكن شيئا مذكورا ، قالوا : ومعنى قوله : ( لم يكن شيئا مذكورا ) لم يكن شيئا له نباهة ولا رفعة ، ولا شرف ، إنما كان طينا لازبا وحمأ مسنونا .

وقال آخرون : لا حد للحين في هذا الموضع; وقد يدخل هذا القول من أن الله أخبر أنه أتى على الإنسان حين من الدهر ، وغير مفهوم في الكلام أن يقال : أتى على الإنسان حين قبل أن يوجد ، وقبل أن يكون شيئا ، واذا أريد ذلك قيل : أتى حين قبل أن يخلق ، ولم يقل أتى عليه . وأما الدهر في هذا الموضع ، فلا حد له يوقف عليه .

وقوله : ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه ) يقول تعالى ذكره : إنا خلقنا ذرية آدم من نطفة ، يعني : من ماء الرجل وماء المرأة ، والنطفة : كل ماء قليل في وعاء كان ذلك ركية أو قربة ، أو غير ذلك ، كما قال عبد الله بن رواحة :


هل أنت إلا نطفة في شنه



وقوله : ( أمشاج ) يعني : أخلاط ، واحدها : مشج ومشيج ، مثل خدن وخدين; ومنه قول رؤبة بن العجاج :


يطرحن كل معجل نشاج     لم يكس جلدا في دم أمشاج

[ ص: 89 ]

يقال منه : مشجت هذا بهذا : إذا خلطته به ، وهو ممشوج به ومشيج : أي مخلوط به ، كما قال أبو ذؤيب :


كأن الريش والفوقين منه     خلال النصل سيط به مشيج



واختلف أهل التأويل في معنى الأمشاج الذي عني بها في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب وأبو هشام الرفاعي قالا ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن الأصبهاني ، عن عكرمة ( أمشاج نبتليه ) قال : ماء الرجل وماء المرأة يمشج أحدهما بالآخر .

حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن الأصبهاني ، عن عكرمة قال : ماء الرجل وماء المرأة يختلطان .

قال : ثنا أبو أسامة ، قال : ثنا زكريا ، عن عطية ، عن ابن عباس ، قال : ماء المرأة وماء الرجل يمشجان .

قال : ثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس ، قال : ماء المرأة وماء الرجل يختلطان .

قال : ثنا عبد الله ، قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، قال : إذا اجتمع ماء الرجل وماء المرأة فهو أمشاج .

قال : ثنا أبو أسامة ، قال : ثنا المبارك ، عن الحسن ، قال : مشج ماء المرأة مع ماء الرجل . [ ص: 90 ]

قال : ثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، قال : خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة ، وقد قال الله : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) .

قال : ثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، قال : خلق من تارات ماء الرجل وماء المرأة .

وقال آخرون : إنما عني بذلك : إنا خلقنا الإنسان من نطفة ألوان ينتقل إليها ، يكون نطفة ، ثم يصير علقة ، ثم مضغة ، ثم عظما ، ثم كسي لحما .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه ) الأمشاج : خلق من ألوان ، خلق من تراب ، ثم من ماء الفرج والرحم ، وهي النطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظما ، ثم أنشأه خلقا آخر فهو ذلك .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة ، في هذه الآية ( أمشاج ) قال : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظما .

حدثنا الرفاعي ، قال : ثنا وهب بن جرير ويعقوب الحضرمي ، عن شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة ، قال : نطفة ، ثم علقة .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ) أطوار الخلق ، طورا نطفة ، وطورا علقة ، وطورا مضغة ، وطورا عظاما ، ثم كسى الله العظام لحما ، ثم أنشأه خلقا آخر ، أنبت له الشعر .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( أمشاج نبتليه ) قال : الأمشاج : اختلط الماء والدم ، ثم كان علقة ، ثم كان مضغة .

وقال آخرون : عني بذلك اختلاف ألوان النطفة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( أمشاج نبتليه ) يقول : مختلفة الألوان .

حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : ألوان النطفة . [ ص: 91 ]

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أي الماءين سبق أشبه عليه أعمامه وأخواله .

قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( أمشاج نبتليه ) قال : ألوان النطفة; نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة حمراء وخضراء .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

وقال آخرون : بل هي العروق التي تكون في النطفة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب وأبو هشام ، قالا ثنا وكيع ، قال : ثنا المسعودي ، عن عبد الله بن المخارق ، عن أبيه ، عن عبد الله ، قال : أمشاجها : عروقها .

حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، قال : ثنا أسامة بن زيد ، عن أبيه ، قال : هي العروق التي تكون في النطفة .

وأشبه هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى ذلك ( من نطفة أمشاج ) نطفة الرجل ونطفة المرأة ، لأن الله وصف النطفة بأنها أمشاج ، وهي إذا انتقلت فصارت علقة ، فقد استحالت عن معنى النطفة فكيف تكون نطفة أمشاجا وهي علقة ؟ وأما الذين قالوا : إن نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، فإن المعروف من نطفة الرجل أنها سحراء على لون واحد ، وهي بيضاء تضرب إلى الحمرة ، وإذا كانت لونا واحدا لم تكن ألوانا مختلفة ، وأحسب أن الذين قالوا : هي العروق التي في النطفة قصدوا هذا المعنى .

وقد حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، قال : إنما خلق الإنسان من الشيء القليل من النطفة . ألا ترى أن الولد إذا أسكت ترى له مثل الرير ؟ وإنما خلق ابن آدم من مثل ذلك من النطفة أمشاج نبتليه .

وقوله : ( نبتليه ) نختبره . وكان بعض أهل العربية يقول : المعنى : جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه ، فهي مقدمة معناها التأخير ، إنما المعنى خلقناه وجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه ، ولا وجه عندي لما قال يصح ، وذلك أن الابتلاء إنما هو بصحة الآلات وسلامة العقل من الآفات ، وإن عدم السمع والبصر ، وأما إخباره إيانا أنه جعل لنا أسماعا وأبصارا [ ص: 92 ] في هذه الآية ، فتذكير منه لنا بنعمه ، وتنبيه على موضع الشكر; فأما الابتلاء فبالخلق مع صحة الفطرة ، وسلامة العقل من الآفة ، كما قال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) .

وقوله : ( فجعلناه سميعا بصيرا ) يقول تعالى ذكره : فجعلناه ذا سمع يسمع به ، وذا بصر يبصر به ، إنعاما من الله على عباده بذلك ، ورأفة منه لهم ، وحجة له عليهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية