صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا ( 21 ) ) .

يقول تعالى ذكره : فوقهم ، يعني فوق هؤلاء الأبرار ثياب سندس . وكان بعض أهل التأويل يتأول قوله : ( عاليهم ) فوق حجالهم المثبتة عليهم ( ثياب سندس ) وليس ذلك بالقول المدفوع ، لأن ذلك إذا كان فوق حجال هم فيها ، فقد علاهم فهو عاليهم .

وقد اختلف أهل القراءة في قراءة ذلك فقرأته عامة قراء المدينة والكوفة وبعض قراء مكة ( عاليهم ) بتسكين الياء . وكان عاصم وأبو عمرو وابن كثير يقرءونه بفتح الياء ، فمن فتحها جعل قوله ( عاليهم ) اسما مرافعا للثياب ، مثل قول القائل : ظاهرهم ثياب سندس .

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .

وقوله : ( ثياب سندس ) يعني : ثياب ديباج رقيق حسن ، والسندس : هو ما رق من الديباج . [ ص: 113 ]

وقوله : ( خضر ) اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأه أبو جعفر القارئ وأبو عمرو برفع : ( خضر ) على أنها نعت للثياب ، وخفض ( إستبرق ) عطفا به على السندس ، بمعنى : وثياب إستبرق . وقرأ ذلك عاصم وابن كثير ( خضر ) خفضا ( وإستبرق ) رفعا ، عطفا بالإستبرق على الثياب ، بمعنى : عاليهم إستبرق ، وتصييرا للخضر نعتا للسندس . وقرأ نافع ذلك : ( خضر ) رفعا على أنها نعت للثياب ( وإستبرق ) رفعا عطفا به على الثياب . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة : ( خضر وإستبرق ) خفضا كلاهما . وقرأ ذلك ابن محيصن بترك إجراء الإستبرق : ( وإستبرق ) بالفتح بمعنى : وثياب إستبرق ، وفتح ذلك أنه وجهه إلى أنه اسم أعجمي . ولكل هذه القراءات التي ذكرناها وجه ومذهب غير الذي سبق ذكرنا عن ابن محيصن ، فإنها بعيدة من معروف كلام العرب ، وذلك أن الإستبرق نكرة ، والعرب تجري الأسماء النكرة وإن كانت أعجمية ، والإستبرق : هو ما غلظ من الديباج . وقد ذكرنا أقوال أهل التأويل في ذلك حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم التيمي ( فيما مضى قبل فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الإستبرق : الديباج الغليظ .

وقوله : ( وحلوا أساور من فضة ) يقول : وحلاهم ربهم أساور ، وهي جمع أسورة من فضة .

وقوله : ( وسقاهم ربهم شرابا طهورا ) يقول تعالى ذكره : وسقى هؤلاء الأبرار ربهم شرابا طهورا ، ومن طهره أنه لا يصير بولا نجسا ، ولكنه يصير رشحا من أبدانهم كرشح المسك .

كالذي وسقاهم ربهم شرابا طهورا ) قال : عرق يفيض من أعراضهم مثل ريح المسك .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن منصور ، عن إبراهيم التيمي ، مثله .

قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم التيمي ، قال : إن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مئة رجل من أهل الدنيا ، وأكلهم وهمتهم ، فإذا أكل سقي شرابا طهورا ، فيصير رشحا يخرج من جلده أطيب ريحا من المسك الأذفر ، ثم تعود شهوته . [ ص: 114 ]

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( شرابا طهورا ) قال : ما ذكر الله من الأشربة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن أبان ، عن أبي قلابة : إن أهل الجنة إذا أكلوا وشربوا ما شاءوا دعوا بالشراب الطهور فيشربونه ، فتطهر بذلك بطونهم ويكون ما أكلوا وشربوا رشحا وريح مسك ، فتضمر لذلك بطونهم .

حدثنا علي بن سهل ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، عن أبي هريرة أو غيره " شك أبو جعفر الرازي " قال : صعد جبرائيل بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى السماء السابعة ، فاستفتح ، فقيل له : من هذا ؟ فقال : جبرائيل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أو قد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حياه الله من أخ وخليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ، قال : فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس على كرسي عند باب الجنة ، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس ، وقوم في ألوانهم شيء ، فقام الذين في ألوانهم شيء ، فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خلصت ألوانهم ، فصارت مثل ألوان أصحابهم ، فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم ، فقال : يا جبريل من هذا الأشمط ، ومن هؤلاء البيض الوجوه ، ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ، وما هذه الأنهار التي اغتسلوا فيها ، فجاءوا وقد صفت ألوانهم ؟ قال : هذا أبوك إبراهيم ، أول من شمط على الأرض ، وأما هؤلاء البيض الوجوه ، فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم : وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا ، فتاب الله عليهم . وأما الأنهار ، فأولها رحمة الله ، والثاني نعمة الله ، والثالث سقاهم ربهم شرابا طهورا .

التالي السابق


الخدمات العلمية