القول في
تأويل قوله جل ثناؤه : ( وعلى أبصارهم غشاوة )
قال
أبو جعفر : وقوله (
وعلى أبصارهم غشاوة ) خبر مبتدأ بعد تمام الخبر عما ختم الله جل ثناؤه عليه من جوارح الكفار الذين مضت قصصهم . وذلك أن "غشاوة " مرفوعة بقوله "
وعلى أبصارهم " ، فذلك دليل على أنه خبر مبتدأ ، وأن قوله "
ختم الله على قلوبهم " ، قد تناهى عند قوله "
وعلى سمعهم " .
وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين :
أحدهما : اتفاق الحجة من القراء والعلماء على الشهادة بتصحيحها ، وانفراد المخالف لهم في ذلك ، وشذوذه عما هم على تخطئته مجمعون . وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدا على خطئها .
والثاني : أن الختم غير موصوفة به العيون في شيء من كتاب الله ، ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا موجود في لغة أحد من العرب . وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى : (
وختم على سمعه وقلبه ) ، ثم قال : (
وجعل على بصره غشاوة )
[ ص: 263 ] سورة الجاثية : 23 ، فلم يدخل البصر في معنى الختم . وذلك هو المعروف في كلام العرب ، فلم يجز لنا ، ولا لأحد من الناس ، القراءة بنصب الغشاوة ، لما وصفت من العلتين اللتين ذكرت ، وإن كان لنصبها مخرج معروف في العربية .
وبما قلنا في ذلك من القول والتأويل ، روي الخبر عن
ابن عباس :
305 - حدثني
محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي
الحسين بن الحسن ، عن أبيه ، عن جده ، عن
ابن عباس : "
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " ، والغشاوة على أبصارهم .
[ ص: 264 ]
فإن قال قائل : وما وجه مخرج النصب فيها ؟
قيل له : أن تنصبها بإضمار "جعل " ، كأنه قال : وجعل على أبصارهم غشاوة ، ثم أسقط "جعل " ، إذ كان في أول الكلام ما يدل عليه . وقد يحتمل نصبها على إتباعها موضع السمع ، إذ كان موضعه نصبا ، وإن لم يكن حسنا إعادة العامل فيه على "غشاوة " ، ولكن على إتباع الكلام بعضه بعضا ، كما قال تعالى ذكره : (
يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق ) ، ثم قال : (
وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين ) ، سورة الواقعة : 17 - 22 ، فخفض اللحم والحور على العطف به على الفاكهة ، إتباعا لآخر الكلام أوله . ومعلوم أن اللحم لا يطاف به ولا بالحور العين ، ولكن كما قال الشاعر يصف فرسه :
علفتها تبنا وماء باردا حتى شتت همالة عيناها
[ ص: 265 ]
ومعلوم أن الماء يشرب ولا يعلف به ، ولكنه نصب ذلك على ما وصفت قبل ، وكما قال الآخر :
ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
وكان
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج يقول - في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله "
وعلى سمعهم " ، وابتداء الخبر بعده - بمثل الذي قلنا فيه ، ويتأول فيه من كتاب الله (
فإن يشأ الله يختم على قلبك ) سورة الشورى : 24 .
306 - حدثنا
القاسم ، قال : حدثنا
الحسين ، قال : حدثني
حجاج ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : الختم على القلب والسمع ، والغشاوة على البصر ، قال الله تعالى ذكره : (
فإن يشأ الله يختم على قلبك ) ، وقال : (
وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) [ سورة الجاثية : 23 ] .
والغشاوة في كلام العرب : الغطاء ، ومنه قول
الحارث بن خالد بن العاص :
تبعتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
ومنه يقال : تغشاه الهم : إذا تجلله وركبه ، ومنه قول
نابغة بني ذبيان :
[ ص: 266 ] هلا سألت بني ذبيان ما حسبي إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
يعني بذلك : تجلله وخالطه .
وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه
محمدا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبار
اليهود ، أنه قد ختم على قلوبهم وطبع عليها - فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظة وعظهم بها ، فيما آتاهم من علم ما عندهم من كتبه ، وفيما حدد في كتابه الذي أوحاه وأنزله إلى نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم - وعلى سمعهم ، فلا يسمعون من
محمد صلى الله عليه وسلم نبي الله تحذيرا ولا تذكيرا ولا حجة أقامها عليهم بنبوته ، فيتذكروا ويحذروا عقاب الله عز وجل في تكذيبهم إياه ، مع علمهم بصدقه وصحة أمره . وأعلمه مع ذلك أن على أبصارهم غشاوة عن أن يبصروا سبيل الهدى ، فيعلموا قبح ما هم عليه من الضلالة والردى .
وبنحو ما قلنا في ذلك ، روي الخبر عن جماعة من أهل التأويل :
307 - حدثنا
ابن حميد ، قال : حدثنا
سلمة ، عن
محمد بن إسحاق ، عن
محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن
عكرمة ، أو عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس : (
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ) ، أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك ، حتى يؤمنوا به ، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك .
308 - حدثني
موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا
عمرو بن حماد ، قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي في خبر ذكره عن
أبي مالك ، وعن
أبي صالح ، عن
ابن عباس - وعن
nindex.php?page=showalam&ids=17058مرة الهمداني ، عن
ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول
[ ص: 267 ] الله صلى الله عليه وسلم : "
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " يقول : فلا يعقلون ولا يسمعون . ويقول : "وجعل على أبصارهم غشاوة " يقول : على أعينهم فلا يبصرون .
وأما آخرون ، فإنهم كانوا يتأولون أن الذين أخبر الله عنهم من الكفار أنه فعل ذلك بهم ، هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر .
309 - حدثني
المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا
إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا
عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع بن أنس ، قال : هاتان الآيتان إلى (
ولهم عذاب عظيم ) هم (
الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ) سورة إبراهيم : 28 ، وهم الذين قتلوا يوم بدر ، فلم يدخل من القادة أحد في الإسلام إلا رجلان : أبو سفيان بن حرب ، والحكم بن أبي العاص .
310 - وحدثت عن
عمار بن الحسن ، قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع بن أنس ، عن
الحسن ، قال : أما القادة فليس فيهم مجيب ولا ناج ولا مهتد .
وقد دللنا فيما مضى على أولى هذين التأويلين بالصواب ، فكرهنا إعادته .