صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( إن جهنم كانت مرصادا ( 21 ) للطاغين مآبا ( 22 ) لابثين فيها أحقابا ( 23 ) لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ( 24 ) إلا حميما وغساقا ( 25 ) ) .

يعني تعالى ذكره بقوله : إن جهنم كانت ذات رصد لأهلها الذين كانوا يكذبون في الدنيا بها وبالمعاد إلى الله في الآخرة ، ولغيرهم من المصدقين بها . ومعنى الكلام : إن جهنم كانت ذات ارتقاب ترقب من يجتازها وترصدهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا مسلم بن إبراهيم ، عن عبد الله [ ص: 159 ] بن بكر بن عبد الله المازني ، قال : كان الحسن إذا تلا هذه الآية : ( إن جهنم كانت مرصادا ) قال : ألا إن على الباب الرصد ، فمن جاء بجواز جاز ، ومن لم يجئ بجواز احتبس .

حدثني يعقوب ، قال : ثنا إسماعيل بن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( إن جهنم كانت مرصادا ) قال : لا يدخل الجنة أحد حتى يجتاز النار .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إن جهنم كانت مرصادا ) يعلمنا أنه لا سبيل إلى الجنة حتى يقطع النار .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ( إن جهنم كانت مرصادا ) قال : عليها ثلاث قناطر .

وقوله : ( للطاغين مآبا ) يقول تعالى ذكره : إن جهنم للذين طغوا في الدنيا ، فتجاوزوا حدود الله استكبارا على ربهم كانت منزلا ومرجعا يرجعون إليه ، ومصيرا يصيرون إليه يسكنونه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد . قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( للطاغين مآبا ) أي منزلا ومأوى .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران عن سفيان ( مآبا ) يقول : مرجعا ومنزلا .

وقوله : ( لابثين فيها أحقابا ) يقول تعالى ذكره : إن هؤلاء الطاغين في الدنيا لابثون في جهنم ، فماكثون فيها أحقابا .

واختلفت القراء في قراءة قوله : ( لابثين ) فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة ( لابثين ) بالألف . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة " لبثين " بغير ألف ، وأفصح القراءتين وأصحهما مخرجا في العربية قراءة من قرأ ذلك بالألف ، وذلك أن العرب لا تكاد توقع الصفة إذا جاءت على فعل فتعملها في شيء ، وتنصبه بها ، لا يكادون أن يقولوا : هذا رجل بخل بماله ، ولا عسر علينا ، ولا هو خصم لنا; لأن فعل لا يأتي صفة إلا مدحا أو ذما ، فلا يعمل المدح والذم في غيره ، وإذا أرادوا إعمال ذلك في الاسم أو غيره جعلوه فاعلا فقالوا : هو باخل بماله ، وهو طامع فيما عندنا ، فلذلك قلت : إن ( لابثين ) أصح مخرجا في العربية وأفصح ، ولم أحل قراءة من قرأ ( لبثين ) [ ص: 160 ] وإن كان غيرها أفصح ، لأن العرب ربما أعملت المدح في الأسماء ، وقد ينشد بيت لبيد :


أو مسحل عمل عضادة سمحج بسراتها ندب له وكلوم



فأعمل ( عمل ) في عضادة ، ولو كانت عاملا كانت أفصح ، وينشد أيضا :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وبالفأس ضراب رءوس الكرانف



ومنه قول عباس بن مرداس :


أكر وأحمى للحقيقة منهم     وأضرب منا بالسيوف القوانسا

[ ص: 161 ]

وأما الأحقاب فجمع حقب ، والحقب : جمع حقبة ، كما قال الشاعر :


عشنا كندماني جذيمة حقبة     من الدهر حتى قيل لن نتصدعا



فهذه جمعها حقب ، ومن الأحقاب التي جمعها حقب قول الله : ( أو أمضي حقبا ) فهذا واحد الأحقاب .

وقد اختلف أهل التأويل في مبلغ مدة الحقب ، فقال بعضهم : مدة ثلاث مئة سنة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا عمران بن موسى القزاز ، قال : ثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : ثنا إسحاق بن سويد ، عن بشير بن كعب ، في قوله : ( لابثين فيها أحقابا ) قال : بلغني أن الحقب ثلاث مئة سنة ، كل سنة ثلاث مئة وستون يوما ، كل يوم ألف سنة .

وقال آخرون : بل مدة الحقب الواحد : ثمانون سنة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قال : ثني عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لهلال الهجري : ما تجدون الحقب في كتاب الله المنزل ؟ قال : نجد ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهرا ، كل شهر ثلاثون يوما ، كل يوم ألف سنة .

حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : أنه قال : الحقب : ثمانون سنة ، والسنة : [ ص: 162 ] ستون وثلاث مئة يوم ، واليوم : ألف سنة .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبى سنان ، عن ابن عباس ، قال : الحقب : ثمانون سنة .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : ثنا الأعمش ، عن سعيد ، بن جبير ، في قوله : ( لابثين فيها أحقابا ) قال : الحقب : ثمانون سنة ، السنة : ثلاث مئة وستون يوما ، اليوم : سنة أو ألف سنة " الطبري يشك " .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله : ( لابثين فيها أحقابا ) وهو ما لا انقطاع له ، كلما مضى حقب جاء حقب بعده . وذكر لنا أن الحقب ثمانون سنة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( أحقابا ) قال : بلغنا أن الحقب ثمانون سنة من سني الآخرة .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ( لابثين فيها أحقابا ) لا يعلم عدة هذه الأحقاب إلا الله ، ولكن الحقب الواحد : ثمانون سنة ، والسنة : ثلاث مئة وستون يوما ، كل يوم من ذلك ألف سنة .

وقال آخرون : الحقب الواحد : سبعون ألف سنة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثني عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير ، عن سالم ، قال : سمعت الحسن يسأل عن قول الله : ( لابثين فيها أحقابا ) قال : أما الأحقاب فليس لها عدة إلا الخلود في النار; ولكن ذكروا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة ، كل يوم من تلك الأيام السبعين ألفا كألف سنة مما تعدون .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن الحسن في قوله : ( لابثين فيها أحقابا ) قال : أما الأحقاب ، فلا يدري أحد ما هي ، وأما الحقب الواحد : فسبعون ألف سنة ، كل يوم كألف سنة .

وروي عن خالد بن معدان في هذه الآية أنها في أهل القبلة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عامر بن جشب ، [ ص: 163 ] عن خالد بن معدان في قوله : ( لابثين فيها أحقابا ) ، وقوله : ( إلا ما شاء ربك ) أنهما في أهل التوحيد من أهل القبلة .

فإن قال قائل : فما أنت قائل في هذا الحديث ؟ قيل : الذي قاله قتادة عن الربيع بن أنس في ذلك أصح . فإن قال : فما للكفار عند الله عذاب إلا أحقابا ، قيل : إن الربيع وقتادة قد قالا : إن هذه الأحقاب لا انقضاء لها ولا انقطاع لها . وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك : لابثين فيها أحقابا في هذا النوع من العذاب هو أنهم : ( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا ) فإذا انقضت تلك الأحقاب ، صار لهم من العذاب أنواع غير ذلك ، كما قال جل ثناؤه في كتابه : ( وإن للطاغين لشر مآب جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج ) وهذا القول عندي أشبه بمعنى الآية .

وقد روي عن مقاتل بن حيان في ذلك ما حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سألت أبا معاذ الخراساني ، عن قول الله : ( لابثين فيها أحقابا ) فأخبرنا عن مقاتل بن حيان ، قال : منسوخة ، نسختها ( فلن نزيدكم إلا عذابا ) ولا معنى لهذا القول; لأن قوله : ( لابثين فيها أحقابا ) خبر والأخبار لا يكون فيها نسخ ، وإنما النسخ يكون في الأمر والنهي .

وقوله : ( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ) يقول : لا يطعمون فيها بردا يبرد حر السعير عنهم ، إلا الغساق ، ولا شرابا يرويهم من شدة العطش الذي بهم ، إلا الحميم . وقد زعم بعض أهل العلم بكلام العرب أن البرد في هذا الموضع النوم ، وأن معنى الكلام : لا يذوقون فيها نوما ولا شرابا ، واستشهد لقيله ذلك بقول الكندي :


بردت مراشفها علي فصدني     عنها وعن قبلاتها البرد



يعني بالبرد : النعاس ، والنوم إن كان يبرد غليل العطش ، فقيل له من أجل ذلك [ ص: 164 ] البرد فليس هو باسمه المعروف ، وتأويل كتاب الله على الأغلب من معروف كلام العرب ، دون غيره .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا ) فاستثنى من الشراب الحميم ، ومن البرد : الغساق .

وقوله : ( إلا حميما وغساقا ) يقول تعالى ذكره : لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما قد أغلي حتى انتهى حره ، فهو كالمهل يشوي الوجوه ، ولا بردا إلا غساقا .

اختلف أهل التأويل في معنى الغساق ، فقال بعضهم : هو ما سال من صديد أهل جهنم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، ومحمد بن المثنى ، قالا ثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية بن سعد ، في قوله : ( حميما وغساقا ) قال : هو الذي يسيل من جلودهم .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : ثنا أبو عمرو ، قال : زعم عكرمة أنه حدثهم في قوله : ( وغساقا ) قال : ما يخرج من أبصارهم من القيح والدم .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن منصور عن إبراهيم وأبي رزين ( إلا حميما وغساقا ) قالا غسالة أهل النار : لفظ ابن بشار; وأما ابن المثنى فقال في حديثه : ما يسيل من صديدهم .

وحدثنا ابن بشار مرة أخرى عن عبد الرحمن ، فقال كما قال ابن المثنى .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ( وغساقا ) قال : ما يسيل من صديدهم .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور وأبي رزين ، عن إبراهيم مثله .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( غساقا ) كنا نحدث أن الغساق : ما يسيل من بين جلده ولحمه .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا الضحاك بن مخلد ، عن سفيان ، أنه قال : بلغني [ ص: 165 ] أنه ما يسيل من دموعهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ( وغساقا ) قال : ما يسيل من صديدهم من البرد ، قاله سفيان ، وقال غيره : الدموع .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إلا حميما وغساقا ) قال : الحميم : دموع أعينهم في النار ، يجتمع في خنادق النار فيسقونه والغساق : الصديد الذي يخرج من جلودهم ، ما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها فيسقونه .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ( إلا حميما وغساقا ) قال : الغساق : ما يقطر من جلودهم ، وما يسيل من نتنهم .

وقال آخرون : الغساق : الزمهرير .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( إلا حميما وغساقا ) يقول : الزمهرير .

حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن المثنى ، قالوا : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، في قوله : ( إلا حميما وغساقا ) قال : الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده .

قال : ثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ( إلا حميما وغساقا ) قال : الذي لا يستطيعونه من برده .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، الغساق : الذي لا يستطاع من برده .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر عن الربيع ، قال : الغساق ، الزمهرير .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن أبي جعفر ، عن الربيع عن أبي العالية ، قال : الغساق : الزمهرير .

وقال آخرون : هو المنتن ، وهو بالطخارية .

ذكر من قال ذلك :

حدثت عن المسيب بن شريك ، عن صالح بن حيان ، عن عبد الله بن بريدة ، [ ص: 166 ] قال : الغساق : بالطخارية : هو المنتن .

والغساق عندي : هو الفعال ، من قولهم : غسقت عين فلان : إذا سالت دموعها ، وغسق الجرح : إذا سال صديده ، ومنه قول الله ( ومن شر غاسق إذا وقب ) يعني بالغاسق : الليل إذا لبس الأشياء وغطاها ، وإنما أريد بذلك هجومه على الأشياء ، هجوم السيل السائل . فإذا كان الغساق هو ما وصفت من الشيء السائل ، فالواجب أن يقال : الذي وعد الله هؤلاء القوم ، وأخبر أنهم يذوقونه في الآخرة من الشراب هو السائل من الزمهرير في جهنم ، الجامع مع شدة برده النتن

كما حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يعمر بن بشر ، قال : ثنا ابن المبارك ، قال : ثنا رشدين بن سعد ، قال : ثنا عمرو بن الحارث ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لو أن دلوا من غساق يهراق إلى الدنيا لأنتن أهل الدنيا " .

حدثت عن محمد بن حرب ، قال : ثنا ابن لهيعة ، عن أبي قبيل ، عن أبي مالك ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : " أتدرون أي شيء الغساق ؟ " قالوا : الله أعلم ، قال : " هو القيح الغليظ ، لو أن قطرة منه تهراق بالمغرب لأنتن أهل المشرق ، ولو تهراق بالمشرق ، لأنتن أهل الغرب " .

فإن قال قائل : فإنك قد قلت : إن الغساق : هو الزمهرير ، والزمهرير ، هو غاية البرد ، فكيف يكون الزمهرير سائلا ؟ قيل : إن البرد الذي لا يستطاع ولا يطاق يكون في صفة السائل من أجساد القوم من القيح والصديد .

التالي السابق


الخدمات العلمية