صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ( 18 ) وما أدراك ما عليون ( 19 ) كتاب مرقوم ( 20 ) يشهده المقربون ( 21 ) إن الأبرار لفي نعيم ( 22 ) ) .

يقول تعالى ذكره : ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ) والأبرار : جمع بر ، وهم الذين بروا الله بأداء فرائضه ، واجتناب محارمه . وقد كان الحسن يقول : هم الذين لا يؤذون شيئا حتى الذر .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا هشام ، عن شيخ ، عن الحسن ، قال : سئل عن الأبرار ، قال : الذين لا يؤذون الذر .

حدثنا إسحاق بن زيد الخطابي ، قال : ثنا الفريابي ، عن السري بن يحيى ، عن الحسن ، قال : الأبرار : هم الذين لا يؤذون الذر .

وقوله : ( لفي عليين ) اختلف أهل التأويل في معنى عليين ، فقال بعضهم : [ ص: 291 ] هي السماء السابعة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني جرير بن حازم ، عن الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن هلال بن يساف ، قال : سأل ابن عباس كعبا وأنا حاضر عن العليين ، فقال كعب : هي السماء السابعة ، وفيها أرواح المؤمنين .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد الله - يعني : العتكي - عن قتادة ، في قوله : ( إن كتاب الأبرار لفي عليين ) قال : في السماء العليا .

حدثني علي بن الحسين الأزدي ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن أسامة بن زيد ، عن أبيه ، في قوله : ( إن كتاب الأبرار لفي عليين ) قال : في السماء السابعة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( عليين ) قال : السماء السابعة .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( لفي عليين ) في السماء عند الله .

وقال آخرون : بل العليون : قائمة العرش اليمنى .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ) ذكر لنا أن كعبا كان يقول : هي قائمة العرش اليمنى .

حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد ، قال : ثنا مطرف بن مازن ، قاضي اليمن ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( إن كتاب الأبرار لفي عليين ) قال : عليون : قائمة العرش اليمنى .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( في عليين ) قال : فوق السماء السابعة ، عند قائمة العرش اليمنى .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن حفص ، عن شمر بن عطية ، قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فسأله ، فقال : حدثني عن قول الله : [ ص: 292 ] ( إن كتاب الأبرار لفي عليين ) الآية ، فقال كعب : إن الروح المؤمنة إذا قبضت ، صعد بها ، ففتحت لها أبواب السماء ، وتلقتها الملائكة بالبشرى ، ثم عرجوا معها حتى ينتهوا إلى العرش ، فيخرج لها من عند العرش فيرقم رق ، ثم يختم بمعرفتها النجاة بحساب يوم القيامة ، وتشهد الملائكة المقربون .

وقال آخرون : بل عني بالعليين : الجنة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( إن كتاب الأبرار لفي عليين ) قال : الجنة .

وقال آخرون : عند سدرة المنتهى .

ذكر من قال ذلك :

حدثني جعفر بن محمد البزوري من أهل الكوفة ، قال : ثنا يعلى بن عبيد ، عن الأجلح ، عن الضحاك قال : إذا قبض روح العبد المؤمن عرج به إلى السماء ، فتنطلق معه المقربون إلى السماء الثانية ، قال الأجلح : قلت : وما المقربون ؟ قال : أقربهم إلى السماء الثانية ، فتنطلق معه المقربون إلى السماء الثالثة ، ثم الرابعة ، ثم الخامسة ، ثم السادسة ، ثم السابعة ، حتى تنتهي به إلى سدرة المنتهى . قال الأجلح : قلت للضحاك : لم تسمى سدرة المنتهى ؟ قال : لأنه ينتهي إليها كل شيء من أمر الله ، لا يعدوها ، فتقول : رب عبدك فلان ، وهو أعلم به منهم ، فيبعث الله إليهم بصك مختوم يؤمنه من العذاب ، فذلك قول الله : ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون ) .

وقال آخرون : بل عني بالعليين : في السماء عند الله .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( إن كتاب الأبرار لفي عليين ) يقول : أعمالهم في كتاب عند الله في السماء .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أن كتاب الأبرار في عليين; والعليون : جمع معناه : شيء فوق شيء ، وعلو فوق علو ، وارتفاع [ ص: 293 ] بعد ارتفاع ، فلذلك جمعت بالياء والنون ، كجمع الرجال ، إذا لم يكن له بناء من واحده واثنيه ، كما حكي عن بعض العرب سماعا أطعمنا مرقة مرقين : يعني اللحم المطبوخ كما قال الشاعر :


قد رويت إلا الدهيدهينا قليصات وأبيكرينا



فقال : وأبيكرينا ، فجمعها بالنون إذ لم يقصد عددا معلوما من البكارة ، بل أراد عددا لا يحد آخره ، وكما قال الآخر :


فأصبحت المذاهب قد أذاعت     بها الإعصار بعد الوابلينا



يعني : مطرا بعد مطر غير محدود العدد ، وكذلك تفعل العرب في كل جمع لم يكن بناء له من واحده واثنيه ، فجمعه في جميع الإناث والذكران بالنون على ما قد بينا ، ومن ذلك قولهم للرجال والنساء : عشرون وثلاثون . فإذا كان ذلك كالذي ذكرنا ، فبين أن قوله : ( لفي عليين ) معناه : في علو وارتفاع في سماء فوق سماء ، وعلو فوق علو وجائز أن يكون ذلك إلى السماء السابعة ، [ ص: 294 ] وإلى سدرة المنتهى ، وإلى قائمة العرش ، ولا خبر يقطع العذر بأنه معني به بعض ذلك دون بعض .

والصواب أن يقال في ذلك ، كما قال جل ثناؤه : إن كتاب أعمال الأبرار لفي ارتفاع إلى حد قد علم الله جل وعز منتهاه ، ولا علم عندنا بغايته ، غير أن ذلك لا يقصر عن السماء السابعة ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك .

وقوله : ( وما أدراك ما عليون ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، معجبه من عليين : وأي شيء أشعرك يا محمد ما عليون .

وقوله : ( كتاب مرقوم ) يقول جل ثناؤه : إن كتاب الأبرار لفي عليين ، ( كتاب مرقوم ) : أي مكتوب بأمان من الله إياه من النار يوم القيامة ، والفوز بالجنة ، كما قد ذكرناه قبل عن كعب الأحبار والضحاك بن مزاحم .

وكما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( كتاب مرقوم ) رقم .

وقوله : ( يشهده المقربون ) يقول : يشهد ذلك الكتاب المكتوب بأمان الله للبر من عباده من النار ، وفوزه بالجنة ، المقربون من ملائكته من كل سماء من السماوات السبع .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( يشهده المقربون ) قال : كل أهل السماء .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يشهده المقربون ) من ملائكة الله .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( يشهده المقربون ) قال : يشهده مقربو أهل كل سماء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( يشهده المقربون ) قال : الملائكة .

وقوله : ( إن الأبرار لفي نعيم ) يقول تعالى ذكره : إن الأبرار الذين بروا [ ص: 295 ] باتقاء الله وأداء فرائضه ، لفي نعيم دائم ، لا يزول يوم القيامة ، وذلك نعيمهم في الجنان .

التالي السابق


الخدمات العلمية