صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ( 19 ) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ( 20 ) ولسوف يرضى ( 21 ) ) .

كان بعض أهل العربية يوجه تأويل ذلك إلى : وما لأحد من خلق الله عند هذا الذي يؤتي ماله في سبيل الله يتزكى ( من نعمة تجزى ) يعني : من يد يكافئه [ ص: 479 ] عليها ، يقول : ليس ينفق ما ينفق من ذلك ، ويعطي ما يعطي مجازاة إنسان يجازيه على يد له عنده ، ولا مكافأة له على نعمة سلفت منه إليه ، أنعمها عليه ، ولكن يؤتيه في حقوق الله ابتغاء وجه الله . قال : وإلا في هذا الموضع بمعنى لكن ، وقال : يجوز أن يكون يفعل في المكافأة مستقبلا فيكون معناه : ولم يرد بما أنفق مكافأة من أحد ، ويكون موقع اللام التي في أحد في الهاء التي خفضتها عنده ، فكأنك قلت : وما له عند أحد فيما أنفق من نعمة يلتمس ثوابها ، قال : وقد تضع العرب الحرف في غير موضعه إذا كان معروفا ، واستشهدوا لذلك ببيت النابغة :


وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي على وعل في ذي المطارة عاقل



والمعنى : حتى ما تزيد مخافة وعل على مخافتي ، وهذا الذي قاله الذي حكينا قوله من أهل العربية ، وزعم أنه مما يجوز هو الصحيح الذي جاءت به الآثار عن أهل التأويل وقالوا : نزلت في أبي بكر بعتقه من أعتق .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) يقول : ليس به مثابة الناس ولا مجازاتهم ، إنما عطيته لله .

حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي ، قال : ثنا هارون بن معروف . قال : ثنا بشر بن السري ، قال : ثنا مصعب بن ثابت ، عن عامر بن عبد الله عن أبيه ، قال : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : أخبرني سعيد ، عن قتادة ، في قوله ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) قال : نزلت في أبي بكر ، [ ص: 480 ] أعتق ناسا لم يلتمس منهم جزاء ولا شكورا ، ستة أو سبعة ، منهم بلال ، وعامر بن فهيرة . وعلى هذا التأويل الذي ذكرناه عن هؤلاء ، ينبغي أن يكون قوله : ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) نصبا على الاستثناء من معنى قوله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) لأن معنى الكلام : وما يؤتي الذي يؤتي من ماله ملتمسا من أحد ثوابه ، إلا ابتغاء وجه ربه . وجائز أن يكون نصبه على مخالفة ما بعد إلا ما قبلها ، كما قال النابغة :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وما بالربع من أحد     إلا أواري لأيا ما أبينها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله : ( ولسوف يرضى ) يقول : ولسوف يرضى هذا المؤتي ماله في حقوق الله عز وجل ، يتزكى بما يثيبه الله في الآخرة عوضا مما أتى في الدنيا في سبيله ، إذا لقي ربه تبارك وتعالى .

آخر تفسير سورة والليل إذا يغشى

التالي السابق


الخدمات العلمية