1. الرئيسية
  2. تفسير الطبري
  3. تفسير سورة البقرة
  4. القول في تأويل قوله تعالى " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا "
صفحة جزء
[ ص: 583 ] القول في تأويل قوله تعالى ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ( 195 ) )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، ومن عنى بقوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .

فقال بعضهم : عنى بذلك : " وأنفقوا في سبيل الله " - وسبيل الله " طريقه الذي أمر أن يسلك فيه إلى عدوه من المشركين لجهادهم وحربهم " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " - يقول : ولا تتركوا النفقة في سبيل الله ، فإن الله يعوضكم منها أجرا ويرزقكم عاجلا .

ذكر من قال ذلك :

3144 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة والحسن بن عرفة قالا حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن سفيان عن حذيفة : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : يعني في ترك النفقة .

3145 - حدثني محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا شعبة وحدثنا ابن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة وحدثني محمد بن خلف العسقلاني قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر الرازي عن الأعمش وحدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان عن عاصم جميعا ، عن شقيق عن حذيفة قال : هو ترك النفقة في سبيل الله . [ ص: 584 ]

3146 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن منصور عن أبي صالح عن عبد الله بن عباس أنه قال في هذه الآية : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : تنفق في سبيل الله ، وإن لم يكن لك إلا مشقص - أو : سهم - شعبة الذي يشك في ذلك .

3147 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن منصور عن أبي صالح الذي كان يحدث عنه الكلبي عن ابن عباس قال : إن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص أنفقته .

3148 - حدثني ابن بشار قال : حدثنا يحيى عن سفيان عن منصور عن أبي صالح عن ابن عباس : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : في النفقة .

3149 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام عن عمرو بن أبي قيس عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ، قال : ليس التهلكة أن يقتل الرجل في سبيل الله ، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله .

3150 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن عكرمة قال : نزلت في النفقات في سبيل الله ، يعني قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .

3151 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : كان القوم في سبيل الله ، فيتزود الرجل ، فكان أفضل زادا من الآخر . أنفق البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء ، أحب أن [ ص: 585 ] يواسي صاحبه ، فأنزل الله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .

3152 - حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال : حدثنا آدم قال : حدثنا شيبان عن منصور بن المعتمر عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : لا يقولن أحدكم إني لا أجد شيئا ، إن لم يجد إلا مشقصا فليتجهز به في سبيل الله .

3153 - حدثنا ابن عبد الأعلى الصنعاني قال : حدثنا المعتمر قال : سمعت داود - يعني : ابن أبي هند - عن عامر : أن الأنصار كان احتبس عليهم بعض الرزق ، وكانوا قد أنفقوا نفقات ، قال : فساء ظنهم وأمسكوا . قال : فأنزل الله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : وكانت التهلكة سوء ظنهم وإمساكهم .

3154 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى وحدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : تمنعكم نفقة في حق خيفة العيلة .

3155 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : وكان قتادة يحدث أن الحسن حدثه - : أنهم كانوا يسافرون ويغزون ولا ينفقون من أموالهم أو قال : ولا ينفقون في ذلك فأمرهم الله أن ينفقوا في مغازيهم في سبيل الله . [ ص: 586 ]

3156 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " يقول : لا تمسكوا بأيديكم عن النفقة في سبيل الله .

3157 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي : " وأنفقوا في سبيل الله " أنفق في سبيل الله ولو عقالا " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " - تقول : ليس عندي شيء .

3158 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو غسان قال : حدثنا زهير قال : حدثنا خصيف عن عكرمة في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : لما أمر الله بالنفقة ، فكانوا - أو بعضهم - يقولون : ننفق فيذهب مالنا ولا يبقى لنا شيء! قال : فقال : أنفقوا ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، قال : أنفقوا وأنا أرزقكم .

3159 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا هشيم عن يونس عن الحسن قال : نزلت في النفقة .

3160 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : أخبرنا ابن همام الأهوازي قال : أخبرنا يونس عن الحسن في " التهلكة " قال : أمرهم الله بالنفقة في سبيل الله ، وأخبرهم أن ترك النفقة في سبيل الله التهلكة .

3161 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج قال : سألت عطاء عن قوله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : يقول : أنفقوا في سبيل الله ما قل وكثر - قال : وقال لي عبد الله بن كثير : نزلت في النفقة في سبيل الله .

3162 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن منصور عن أبي [ ص: 587 ] صالح عن ابن عباس قال : لا يقولن الرجل لا أجد شيئا! قد هلكت! فليتجهز ولو بمشقص .

3163 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس قوله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " يقول : أنفقوا ما كان من قليل أو كثير . ولا تستسلموا ولا تنفقوا شيئا فتهلكوا .

3164 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك قال : " التهلكة " : أن يمسك الرجل نفسه وماله عن النفقة في الجهاد في سبيل الله .

3165 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد عن يونس عن الحسن في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ، فتدعوا النفقة في سبيل الله .

وقال آخرون ممن وجهوا تأويل ذلك إلى أنه معنية به النفقة : معنى ذلك : وأنفقوا في سبيل الله ، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، فتخرجوا في سبيل الله بغير نفقة ولا قوة .

ذكر من قال ذلك :

3166 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : إذا لم يكن عندك ما تنفق ، فلا تخرج بنفسك بغير نفقة ولا قوة : فتلقي بيديك إلى التهلكة .

وقال آخرون : بل معناه : أنفقوا في سبيل الله ، ولا تلقوا بأيديكم - فيما أصبتم من الآثام - إلى التهلكة ، فتيأسوا من رحمة الله ، ولكن ارجوا رحمته واعملوا الخيرات . [ ص: 588 ]

ذكر من قال ذلك :

3167 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال : حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : هو الرجل يصيب الذنوب فيلقي بيده إلى التهلكة ، يقول : لا توبة لي .

3168 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو بكر بن عياش قال : حدثنا أبو إسحاق عن البراء قال : سأله رجل : أحمل على المشركين وحدي فيقتلوني ، أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة؟ فقال : لا إنما التهلكة في النفقة . بعث الله رسوله ، فقال : ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ) [ سورة النساء : 84 ] .

3169 - حدثنا الحسن بن عرفة وابن وكيع قالا حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب في قول الله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : هو الرجل يذنب الذنب فيقول : لا يغفر الله له .

3170 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء وسأله رجل فقال : يا أبا عمارة أرأيت قول الله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ، أهو الرجل يتقدم فيقاتل حتى يقتل؟ قال : لا ولكنه الرجل يعمل بالمعاصي ، ثم يلقي بيده ولا يتوب .

3171 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء وسأله رجل فقال : الرجل يحمل على كتيبة وحده فيقاتل ، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال : لا ولكن التهلكة أن يذنب الذنب فيلقي بيده ، فيقول : لا تقبل لي توبة .

3172 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام عن الجراح عن أبي إسحاق قال : قلت للبراء بن عازب : يا أبا عمارة الرجل يلقى ألفا من العدو فيحمل عليهم ، وإنما هو وحده ، أيكون ممن قال : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ؟ [ ص: 589 ] فقال : لا ليقاتل حتى يقتل! قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ) .

3173 - حدثنا مجاهد بن موسى قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا هشام وحدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن هشام عن محمد قال : وسألت عبيدة عن قول الله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " الآية . فقال عبيدة : كان الرجل يذنب الذنب - قال : حسبته قال : العظيم - فيلقي بيده فيستهلك زاد يعقوب في حديثه : فنهوا عن ذلك ، فقيل : " أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .

3174 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا هشام عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة السلماني عن ذلك ، فقال : هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم ، ويلقي بيده إلى التهلكة ، ويقول : لا توبة له! يعني قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .

3175 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : أخبرنا أيوب عن محمد عن عبيدة في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : كان الرجل يصيب الذنب فيلقي بيده .

3176 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن ابن عون عن ابن سيرين عن عبيدة : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : القنوط .

3177 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم عن يونس وهشام عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني قال : هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم ، يقول : لا توبة لي! فيلقي بيده .

3178 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : حدثني أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة أنه قال : هي في الرجل يصيب الذنب العظيم فيلقي بيده ، ويرى أنه قد هلك . [ ص: 590 ]

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأنفقوا في سبيل الله ، ولا تتركوا الجهاد في سبيله .

ذكر من قال ذلك :

3179 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني حيوة عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال : غزونا المدينة يريد القسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد . قال : فصففنا صفين لم أر صفين قط أعرض ولا أطول منهما والروم ملصقون ظهورهم بحائط المدينة قال : فحمل رجل منا على العدو ، فقال الناس : مه! لا إله إلا الله ، يلقي بيده إلى التهلكة! قال أبو أيوب الأنصاري : إنما تتأولون هذه الآية هكذا ، أن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة ، أو يبلي من نفسه! إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار ! إنا لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام ، قلنا بيننا معشر الأنصار خفيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها حتى نصر الله نبيه ، هلم نقيم في أموالنا ونصلحها! فأنزل الله الخبر من السماء : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " الآية ، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة : أن نقيم في أموالنا ونصلحها ، وندع الجهاد . قال أبو عمران : فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية .

3180 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي وعبد الله بن أبي زياد قالا حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد قال : أخبرني حيوة وابن لهيعة قالا حدثنا يزيد بن أبي حبيب قال : حدثني أسلم أبو عمران مولى تجيب قال : كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله صلى الله [ ص: 591 ] عليه وسلم ، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج من المدينة صف عظيم من الروم قال : وصففنا صفا عظيما من المسلمين ، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم ، ثم خرج إلينا مقبلا فصاح الناس وقالوا : سبحان الله! ألقى بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية على هذا التأويل! وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار ! إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصريه ، قلنا فيما بيننا بعضنا لبعض سرا من رسول الله : إن أموالنا قد ضاعت ، فلو أنا أقمنا فيها ، فأصلحنا ما ضاع منها! فأنزل الله في كتابه يرد علينا ما هممنا به ، فقال : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " بالإقامة التي أردنا أن نقيم في الأموال ونصلحها ، فأمرنا بالغزو . فما زال أبو أيوب غازيا في سبيل الله حتى قبضه الله . [ ص: 592 ]

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله جل ثناؤه أمر بالإنفاق في سبيله بقوله : " وأنفقوا في سبيل الله " - وسبيله : طريقه الذي شرعه لعباده وأوضحه لهم . ومعنى ذلك : وأنفقوا في إعزاز ديني الذي شرعته لكم ، بجهاد عدوكم الناصبين لكم الحرب على الكفر بي ، ونهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة ، فقال : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .

وذلك مثل ، والعرب تقول للمستسلم للأمر : " أعطى فلان بيديه " ، وكذلك [ ص: 593 ] يقال للممكن من نفسه مما أريد به : " أعطى بيديه " .

فمعنى قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ، ولا تستسلموا للهلكة ، فتعطوها أزمتكم فتهلكوا .

والتارك النفقة في سبيل الله عند وجوب ذلك عليه ، مستسلم للهلكة بتركه أداء فرض الله عليه في ماله . وذلك أن الله جل ثناؤه جعل أحد سهام الصدقات المفروضات الثمانية " في سبيله " ، فقال : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) إلى قوله : ( وفي سبيل الله وابن السبيل ) [ سورة التوبة : 60 ] فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه ، كان للهلكة مستسلما ، وبيديه للتهلكة ملقيا .

وكذلك الآيس من رحمة الله لذنب سلف منه ، ملق بيديه إلى التهلكة ، لأن الله قد نهى عن ذلك فقال : ( : 87 ] .

وكذلك التارك غزو المشركين وجهادهم ، في حال وجوب ذلك عليه ، في حال حاجة المسلمين إليه ، مضيع فرضا ، ملق بيده إلى التهلكة .

فإذ كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ولم يكن الله عز وجل خص منها شيئا دون شيء ، فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا ، والاستسلام للهلكة - وهي العذاب - بترك ما لزمنا من فرائضه ، فغير جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا ، مما نستوجب بدخولنا فيه عذابه .

غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن الأغلب من تأويل الآية : وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله ، ولا تتركوا النفقة فيها ، فتهلكوا باستحقاقكم - بترككم ذلك - عذابي . كما :

3181 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثنا معاوية عن [ ص: 594 ] علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : التهلكة عذاب الله .

قال أبو جعفر : فيكون ذلك إعلاما منه لهم - بعد أمره إياهم بالنفقة - ما لمن ترك النفقة المفروضة عليه في سبيله ، من العقوبة في المعاد .

فإن قال قائل : فما وجه إدخال الباء في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم " ، وقد علمت أن المعروف من كلام العرب : " ألقيت إلى فلان درهما " ، دون " ألقيت إلى فلان بدرهم " ؟

قيل : قد قيل إنها زيدت نحو زيادة القائل : " الباء " في قوله : " جذبت بالثوب ، وجذبت الثوب " " وتعلقت به وتعلقته " ، و ( تنبت بالدهن ) [ سورة المؤمنون : 20 ] وإنما هو : تنبت الدهن .

وقال آخرون : " الباء " في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم " أصل للكنية لأن كل فعل واقع كني عنه فهو مضطر إليها نحو قولك في رجل " كلمته " فأردت الكناية عن فعله ، فإذا أردت ذلك قلت : " فعلت به " قالوا : فلما كان " الباء " هي الأصل ، جاز إدخال " الباء " وإخراجها في كل " فعل " سبيله سبيل كنيته .

وأما " التهلكة " فإنها " التفعلة " من " الهلاك " .

التالي السابق


الخدمات العلمية