صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو )

قال أبو جعفر : يعني جل ذكره بذلك : ويسألك يا محمد أصحابك : أي شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به ؟ فقل لهم يا محمد : أنفقوا منها العفو .

واختلف أهل التأويل في معنى : " العفو " في هذا الموضع .

فقال بعضهم : معناه : الفضل .

ذكر من قال ذلك :

4153 - حدثنا عمرو بن علي الباهلي قال : حدثنا وكيع ح ، وحدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : العفو ما فضل عن أهلك .

4154 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " قل العفو " ، أي الفضل .

4155 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة قال : هو الفضل .

4156 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك عن عطاء في قوله : " العفو " قال : الفضل .

4157 - حدثنا موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي قال : " العفو " ، يقول : الفضل .

4158 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : كان القوم يعملون في كل [ ص: 338 ] يوم بما فيه ، فإن فضل ذلك اليوم فضل عن العيال قدموه ، ولا يتركون عيالهم جوعا ويتصدقون به على الناس .

4159 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا يونس عن الحسن في قوله : " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : هو الفضل ، فضل المال .

وقال آخرون : معنى ذلك : ما كان عفوا لا يبين على من أنفقه أو تصدق به .

ذكر من قال ذلك :

4160 - حدثني علي بن داود قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح عن علي عن ابن عباس : " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، يقول : ما لا يتبين في أموالكم .

4161 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن جريج عن طاوس في قول الله جل وعز : " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : اليسير من كل شيء .

وقال آخرون : معنى ذلك : الوسط من النفقة ، ما لم يكن إسرافا ولا إقتارا .

ذكر من قال ذلك :

4162 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال : حدثنا بشر بن المفضل عن عوف عن الحسن في قوله : " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، يقول : لا تجهد مالك حتى ينفد للناس .

4163 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج قال : سألت عطاء عن قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : العفو في النفقة أن لا تجهد مالك حتى ينفد فتسأل الناس . [ ص: 339 ]

4164 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال سألت عطاء عن قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " قال : العفو ما لم يسرفوا ولم يقتروا في الحق قال : وقال مجاهد : العفو صدقة عن ظهر غنى .

4165 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا عوف عن الحسن في قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : هو أن لا تجهد مالك .

وقال آخرون : معنى ذلك : " قل العفو " ، خذ منهم ما أتوك به من شيء قليلا أو كثيرا .

ذكر من قال ذلك :

4166 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس : " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، يقول : ما أتوك به من شيء قليل أو كثير فاقبله منهم .

وقال آخرون : معنى ذلك : ما طاب من أموالكم .

ذكر من قال ذلك :

4167 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : يقول : الطيب منه ، يقول : أفضل مالك وأطيبه .

4168 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن قتادة قال : كان يقول : العفو الفضل ، يقول : أفضل مالك . [ ص: 340 ]

وقال آخرون : معنى ذلك : الصدقة المفروضة .

ذكر من قال ذلك :

4169 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن قيس بن سعد أو عيسى عن قيس عن مجاهد - شك أبو عاصم - قول الله جل وعز : " قل العفو " ، قال : الصدقة المفروضة .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى " العفو " : الفضل من مال الرجل عن نفسه وأهله في مئونتهم ما لا بد لهم منه . وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن في الصدقة ، وصدقته في وجوه البر :

ذكر بعض الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك :

4170 - حدثنا علي بن مسلم قال : حدثنا أبو عاصم عن ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة قال : قال رجل : يا رسول الله ، عندي دينار ! قال : " أنفقه على نفسك . قال : عندي آخر ! قال : " أنفقه على أهلك . قال : عندي آخر ! قال : أنفقه على ولدك ! قال : عندي آخر ; قال : فأنت أبصر! [ ص: 341 ]

4171 - حدثني محمد بن معمر البحراني قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه ، فإن كان له فضل فليبدأ مع نفسه بمن يعول ، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك فليتصدق على غيرهم " .

4172 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : حدثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن ، فقال : يا رسول الله ، خذ هذه مني صدقة ، فوالله ما أصبحت أملك غيرها ! فأعرض عنه ، فأتاه من ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك ، فأعرض عنه . ثم قال له مثل ذلك ، فأعرض عنه . ثم قال له مثل ذلك ، فقال : هاتها ! مغضبا ، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجه أو عقره ، ثم قال : " يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به ، ويجلس يتكفف الناس ! ! إنما الصدقة عن ظهر غنى . [ ص: 342 ]

4173 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن إبراهيم المخرمي قال : سمعت أبا الأحوص يحدث ، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ارضخ من الفضل ، وابدأ بمن تعول ، ولا تلام على كفاف " .

وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستقصاء ذكرها الكتاب .

فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم لأمته الصدقة من أموالهم بالفضل [ ص: 343 ] عن حاجة المتصدق ، فالفضل من ذلك هو " العفو " من مال الرجل ؛ إذ كان " العفو " ، في كلام العرب ، في المال وفي كل شيء : هو الزيادة والكثرة - ومن ذلك قوله جل ثناؤه : " حتى عفوا " بمعنى : زادوا على ما كانوا عليه من العدد وكثروا ، ومنه قول الشاعر :


ولكنا نعض السيف منها بأسوق عافيات الشحم كوم



يعني به : كثيرات الشحوم . ومن ذلك قيل للرجل : " خذ ما عفا لك من فلان " ، يراد به ما فضل فصفا لك عن جهده بما لم يجهده كان بينا أن الذي أذن الله به في قوله : " قل العفو " لعباده من النفقة ، فأذنهم بإنفاقه إذا أرادوا إنفاقه ، هو الذي بين لأمته رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " خير الصدقة ما أنفقت عن غنى " ، وأذنهم به .

فإن قال لنا قائل : وما تنكر أن يكون ذلك " العفو " هو الصدقة المفروضة ؟ [ ص: 344 ] قيل : أنكرنا ذلك لقيام الحجة على أن من حلت في ماله الزكاة المفروضة فهلك جميع ماله إلا قدر الذي لزم ماله لأهل سهمان الصدقة أن عليه أن يسلمه إليهم ، إذا كان هلاك ماله بعد تفريطه في أداء الواجب كان لهم في ماله إليهم . وذلك لا شك أنه جهده - إذا سلمه إليهم - لا عفوه . وفي تسمية الله جل ثناؤه ما علم عباده وجه إنفاقهم من أموالهم " عفوا " ما يبطل أن يكون مستحقا اسم " جهد " في حالة . وإذا كان ذلك كذلك ، فبين فساد قول من زعم أن معنى " العفو " هو ما أخرجه رب المال إلى إمامه فأعطاه ، كائنا ما كان من قليل ماله وكثيره ، وقول من زعم أنه الصدقة المفروضة . وكذلك أيضا لا وجه لقول من يقول إن معناه : " ما لم يتبين في أموالكم " ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو لبابة : " إن من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة " ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يكفيك من ذلك الثلث ! " ، وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له نحوا من ذلك . والثلث لا شك أنه بين فقده من مال ذي المال ، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) [ سورة الفرقان : 67 ] ، وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) [ ص: 345 ] [ سورة الإسراء : 29 ] ، وذلك هو ما حده صلى الله عليه وسلم فيما دون ذلك على قدر المال واحتماله .

ثم اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل هي منسوخة أم ثابتة الحكم على العباد ؟ فقال بعضهم : هي منسوخة ، نسختها الزكاة المفروضة .

ذكر من قال ذلك :

4174 - حدثني علي بن داود قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : كان هذا قبل أن تفرض الصدقة .

4175 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : لم تفرض فيه فريضة معلومة . ثم قال : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) [ سورة الأعراف : 199 ] ، ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسماة .

4176 - حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، هذه نسختها الزكاة .

وقال آخرون : بل مثبتة الحكم غير منسوخة .

ذكر من قال ذلك :

4177 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن قيس بن سعد أو عيسى عن قيس عن مجاهد - شك أبو عاصم قال - قال : العفو الصدقة المفروضة .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه عطية من أن قوله : " قل العفو " ليس بإيجاب فرض فرض من الله حقا في ماله ، ولكنه إعلام منه ما يرضيه من النفقة مما يسخطه ، جوابا منه لمن سأل نبيه [ ص: 346 ] محمدا صلى الله عليه وسلم عما فيه له رضا . فهو أدب من الله لجميع خلقه على ما أدبهم به في الصدقات غير المفروضات ثابت الحكم ، غير ناسخ لحكم كان قبله بخلافه ، ولا منسوخ بحكم حدث بعده . فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتجاوز في صدقات التطوع وهباته وعطايا النفل وصدقته ، ما أدبهم به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : " إذا كان عند أحدكم فضل فليبدأ بنفسه ، ثم بأهله ، ثم بولده " ، ثم يسلك حينئذ في الفضل مسالكه التي ترضي الله ويحبها . وذلك هو " القوام " بين الإسراف والإقتار ، الذي ذكره الله عز وجل في كتابه إن شاء الله تعالى .

ويقال لمن زعم أن ذلك منسوخ : ما الدلالة على نسخه وقد أجمع الجميع - لا خلاف بينهم - على أن للرجل أن ينفق من ماله صدقة وهبة ووصية ، الثلث ؟ فما الذي دل على أن ذلك منسوخ ؟

فإن زعم أنه يعني بقوله : " إنه منسوخ " ، أن إخراج العفو من المال غير لازم فرضا ، وأن فرض ذلك ساقط بوجود الزكاة في المال

قيل له : وما الدليل على أن إخراج العفو كان فرضا فأسقطه فرض الزكاة ، ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان فرضا ، إذ لم يكن أمر من الله عز ذكره بل فيها الدلالة على أنها جواب ما سأل عنه القوم على وجه التعرف لما فيه لله الرضا من الصدقات ؟

ولا سبيل لمدعي ذلك إلى دلالة توجب صحة ما ادعى .

قال أبو جعفر : وأما القرأة فإنهم اختلفوا في قراءة " العفو " . فقرأته عامة قرأة الحجاز وقرأة الحرمين وعظم قرأة الكوفيين : " قل العفو " نصبا . وقرأه بعض قرأة البصريين : " قل العفو " رفعا .

فمن قرأه نصبا جعل " ماذا " حرفا واحدا ، ونصبه بقوله : " ينفقون " ، على ما قد [ ص: 347 ] بينت قبل - ثم نصب " العفو " على ذلك . فيكون معنى الكلام حينئذ : ويسألونك أي شيء ينفقون ؟

ومن قرأ رفعا جعل " ما " من صلة " ذا " ، ورفعوا " العفو " . فيكون معنى الكلام حينئذ : ما الذي ينفقون ؟ قل : الذي ينفقون العفو .

ولو نصب " العفو " ، ثم جعل " ماذا " حرفين ، بمعنى : يسألونك ماذا ينفقون ؟ قل : ينفقون العفو ورفع الذين جعلوا " ماذا " حرفا واحدا ، بمعنى : ما ينفقون ؟ قل : الذي ينفقون ، خبرا كان صوابا صحيحا في العربية .

وبأي القراءتين قرئ ذلك ، فهو عندي صواب ، لتقارب معنييهما ، مع استفاضة القراءة بكل واحدة منهما . غير أن أعجب القراءتين إلي ، وإن كان الأمر كذلك ، قراءة من قرأه بالنصب ، لأن من قرأ به من القرأة أكثر ، وهو أعرف وأشهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية