صفحة جزء
القول في تأويل قوله عز ذكره ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم )

اختلف أهل التأويل فيم نزلت هذه الآية .

فقال بعضهم : نزلت [ في الذين عزلوا أموال اليتامى الذين كانوا عندهم ، وكرهوا أن يخالطوهم في مأكل أو في غيره ، وذلك حين نزلت ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ سورة الأنعام : 152 ] ، وقوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) [ سورة النساء : 10 ] .

ذكر من قال ذلك ] :

4182 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يحيى بن آدم عن إسرائيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ سورة الأنعام : 152 ، والإسراء : 34 ] عزلوا أموال اليتامى ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : " وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم " ، فخالطوهم . [ ص: 350 ]

4183 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، و ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) [ سورة النساء : 10 ] ، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد . فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم " ، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم .

4184 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام عن عمرو عن عطاء عن سعيد قال : لما نزلت : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، قال : كنا نصنع لليتيم طعاما فيفضل منه الشيء ، فيتركونه حتى يفسد ، فأنزل الله : " وإن تخالطوهم فإخوانكم " .

4185 - حدثنا يحيى بن داود الوسطي قال : حدثنا أبو أسامة عن ابن أبي ليلى عن الحكم قال : سئل عبد الرحمن بن أبي ليلى عن مال اليتيم فقال : لما نزلت : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، اجتنبت مخالطتهم ، واتقوا كل شيء ، حتى اتقوا الماء ، فلما نزلت " وإن تخالطوهم فإخوانكم " ، قال : فخالطوهم .

4186 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " ويسألونك عن اليتامى " الآية كلها ، قال : كان الله أنزل قبل ذلك في [ ص: 351 ] " سورة بني إسرائيل " ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، فكبرت عليهم ، فكانوا لا يخالطونهم في مأكل ولا في غيره ، فاشتد ذلك عليهم ، فأنزل الله الرخصة فقال : " وإن تخالطوهم فإخوانكم " .

4187 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة قال : لما نزلت : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، اعتزل الناس اليتامى فلم يخالطوهم في مأكل ولا مشرب ولا مال ، قال : فشق ذلك على الناس ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم " .

4188 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع في قوله : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم " الآية ، قال : فذكر لنا - والله أعلم - أنه أنزل في " بني إسرائيل " : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ) فكبرت عليهم ، فكانوا لا يخالطونهم في طعام ولا شراب ولا غير ذلك . فاشتد ذلك عليهم ، فأنزل الله الرخصة فقال : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم " ، يقول : مخالطتهم في ركوب الدابة وشرب اللبن وخدمة الخادم . يقول : الولي الذي يلي أمرهم ، فلا بأس عليه أن يركب الدابة أو يشرب اللبن أو يخدمه الخادم .

وقال آخرون في ذلك بما : -

4189 - حدثني عمرو بن علي قال : حدثنا عمران بن عيينة قال : حدثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم " الآية ، قال : كان يكون في حجر الرجل اليتيم فيعزل طعامه وشرابه وآنيته ، فشق ذلك على المسلمين ، فأنزل [ ص: 352 ] الله : " وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح " ، فأحل خلطتهم .

4190 - حدثني أبو السائب قال : حدثنا حفص بن غياث قال : حدثنا أشعث عن الشعبي قال : لما نزلت هذه الآية : " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " ، قال : فاجتنب الناس الأيتام ، فجعل الرجل يعزل طعامه من طعامه ، وماله من ماله ، وشرابه من شرابه . قال : فاشتد ذلك على الناس ، فنزلت : " وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح " . قال الشعبي : فمن خالط يتيما فليتوسع عليه ، ومن خالطه ليأكل من ماله فلا يفعل .

4191 - حدثني علي بن داود قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس : قوله : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير " ، وذلك أن الله لما أنزل : " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " ، كره المسلمون أن يضموا اليتامى ، وتحرجوا أن يخالطوهم في شيء ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : " قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم " .

4192 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم " ، قال : لما نزلت " سورة النساء " ، عزل الناس طعامهم فلم يخالطوهم . قال : ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا يشق علينا أن نعزل طعام اليتامى وهم يأكلون معنا ! فنزلت : " وإن تخالطوهم فإخوانكم " قال ابن جريج وقال مجاهد : عزلوا طعامهم عن طعامهم وألبانهم عن ألبانهم وأدمهم عن أدمهم ، فشق ذلك عليهم ، فنزلت : " وإن تخالطوهم فإخوانكم [ ص: 353 ] " قال : مخالطة اليتيم في المراعي والأدم قال ابن جريج وقال ابن عباس : الألبان وخدمة الخادم وركوب الدابة قال ابن جريج : وفي المساكن ، قال : والمساكن يومئذ عزيزة .

4193 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر قال : أخبرنا أبو كدينة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " و" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما " ، قال : اجتنب الناس مال اليتيم وطعامه ، حتى كان يفسد ، إن كان لحما أو غيره . فشق ذلك على الناس ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير "

4194 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن قيس بن سعد أو عيسى عن قيس بن سعد شك أبو عاصم - عن مجاهد : " وإن تخالطوهم فإخوانكم " ، قال : مخالطة اليتيم في الرعي والأدم .

وقال آخرون : بل كان اتقاء مال اليتيم واجتنابه من أخلاق العرب ، فاستفتوا في ذلك لمشقته عليهم ، فأفتوا بما بينه الله في كتابه .

ذكر من قال ذلك :

4195 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح " ، قال : كانت العرب يشددون في اليتيم حتى لا يأكلوا معه في قصعة واحدة ، ولا يركبوا له بعيرا ، ولا يستخدموا له خادما [ ص: 354 ] فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عنه ، فقال : " قل إصلاح لهم خير " ، يصلح له ماله وأمره له خير ، وإن يخالطه فيأكل معه ويطعمه ويركب راحلته ويحمله ويستخدم خادمه ويخدمه ، فهو أجود " والله يعلم المفسد من المصلح " .

4196 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس قوله : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير " إلى " إن الله عزيز حكيم " ، وإن الناس كانوا إذا كان في حجر أحدهم اليتيم جعل طعامه على ناحية ، ولبنه على ناحية ، مخافة الوزر ، وإنه أصاب المؤمنين الجهد ، فلم يكن عندهم ما يجعلون خدما لليتامى ، فقال الله : " قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم " إلى آخر الآية .

4197 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " ويسألونك عن اليتامى " كانوا في الجاهلية يعظمون شأن اليتيم ، فلا يمسون من أموالهم شيئا ، ولا يركبون لهم دابة ، ولا يطعمون لهم طعاما . فأصابهم في الإسلام جهد شديد ، حتى احتاجوا إلى أموال اليتامى ، فسألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم عن شأن اليتامى وعن مخالطتهم ، فأنزل الله : " وإن تخالطوهم فإخوانكم " يعني " بالمخالطة " ركوب الدابة ، وخدمة الخادم ، وشرب اللبن .

قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : ويسألك يا محمد أصحابك عن مال اليتامى ، وخلطهم أموالهم به في النفقة والمطاعمة والمشاربة والمساكنة والخدمة ، فقل لهم : تفضلكم عليهم بإصلاحكم أموالهم - من غير مرزئة شيء من أموالهم ، وغير أخذ عوض من أموالهم على إصلاحكم ذلك لهم - خير لكم عند الله وأعظم [ ص: 355 ] لكم أجرا ، لما لكم في ذلك من الأجر والثواب وخير لهم في أموالهم في عاجل دنياهم ، لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم " وإن تخالطوهم " فتشاركوهم بأموالكم أموالهم في نفقاتكم ومطاعمكم ومشاربكم ومساكنكم ، فتضموا من أموالهم عوضا من قيامكم بأمورهم وأسبابهم وإصلاح أموالهم ، فهم إخوانكم ، والإخوان يعين بعضهم بعضا ، ويكنف بعضهم بعضا ، فذو المال يعين ذا الفاقة ، وذو القوة في الجسم يعين ذا الضعف . يقول تعالى ذكره : فأنتم أيها المؤمنون وأيتامكم كذلك ، إن خالطتموهم بأموالكم فخلطتم طعامكم بطعامهم ، وشرابكم بشرابهم ، وسائر أموالكم بأموالهم ، فأصبتم من أموالهم فضل مرفق بما كان منكم من قيامكم بأموالهم وولائهم ، ومعاناة أسبابهم ، على النظر منكم لهم نظر الأخ الشفيق لأخيه ، العامل فيما بينه وبينه بما أوجب الله عليه وألزمه فذلك لكم حلال ، لأنكم إخوان بعضكم لبعض ، كما : -

4198 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " وإن تخالطوهم فإخوانكم " ، قال : قد يخالط الرجل أخاه .

4199 - حدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان عن أبي مسكين عن إبراهيم قال : إني لأكره أن يكون مال اليتيم كالعرة .

4200 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع عن هشام الدستوائي عن حماد عن إبراهيم عن عائشة قالت : إنى لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عرة ، حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي . [ ص: 356 ]

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قال : " فإخوانكم " ، فرفع " الإخوان " ؟ وقال في موضع آخر : ( فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ) [ سورة البقرة : 239 ]

قيل : لافتراق معنييهما . وذلك أن أيتام المؤمنين إخوان المؤمنين ، خالطهم المؤمنون بأموالهم أو لم يخالطوهم . فمعنى الكلام : وإن تخالطوهم فهم إخوانكم . و" الإخوان " مرفوعون بالمعنى المتروك ذكره ، وهو " هم " لدلالة الكلام عليه وأنه لم يرد " بالإخوان " الخبر عنهم أنهم كانوا إخوانا من أجل مخالطة ولاتهم إياهم . ولو كان ذلك المراد ، لكانت القراءة نصبا ، وكان معناه حينئذ : وإن تخالطوهم فخالطوا إخوانكم ، ولكنه قرئ رفعا لما وصفت من أنهم إخوان للمؤمنين الذين يلونهم ، خالطوهم أو لم يخالطوهم .

وأما قوله : ( فرجالا أو ركبانا ) ، فنصب ، لأنهما حالان للفعل ، غير دائمين ، ولا يصلح معهما " هو " . وذلك أنك لو أظهرت " هو " معهما لاستحال الكلام . ألا ترى أنه لو قال قائل : " إن خفت من عدوك أن تصلي قائما فهو راجل أو راكب " ، لبطل المعنى المراد بالكلام ؟ وذلك أن تأويل الكلام : فإن خفتم أن تصلوا قياما من عدوكم ، فصلوا رجالا أو ركبانا . ولذلك نصبه إجراء على ما قبله من الكلام ، كما تقول في نحوه من الكلام : " إن لبست ثيابا فالبياض " فتنصبه ، لأنك تريد : إن لبست ثيابا فالبس البياض - ولست تريد الخبر عن أن جميع ما يلبس من الثياب فهو البياض . ولو أردت الخبر عن ذلك لقلت : " إن لبست ثيابا فالبياض " رفعا ، إذا كان مخرج الكلام على وجه الخبر منك عن اللابس ، أن كل ما يلبس من الثياب فبياض . لأنك تريد حينئذ : إن لبست ثيابا فهي بياض . [ ص: 357 ]

فإن قال : فهل يجوز النصب في قوله : " فإخوانكم " .

قيل : جائز في العربية . فأما في القراءة ، فإنما منعناه لإجماع القرأة على رفعه . وأما في العربية ، فإنما أجزناه ، لأنه يحسن معه تكرير ما يحمل في الذي قبله من الفعل فيهما : وإن تخالطوهم ، فإخوانكم تخالطون - فيكون ذلك جائزا في كلام العرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية