صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : فإن رجعوا إلى ترك ما حلفوا عليه أن يفعلوه بهن من ترك جماعهن ، فجامعوهن وحنثوا في أيمانهم " فإن الله غفور " لما كان منهم من الكذب في أيمانهم بأن لا يأتوهن ثم أتوهن ، ولما سلف منهم إليهن ، من اليمين على ما لم يكن لهم أن يحلفوا عليه فحلفوا عليه " رحيم " بهم وبغيرهم من عباده المؤمنين .

وأصل " الفيء " ، الرجوع من حال إلى حال ، ومنه قوله تعالى ذكره : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) إلى قوله ( حتى تفيء إلى أمر الله ) [ سورة الحجرات : 9 ] ، يعني : حتى ترجع إلى أمر الله . ومنه قول الشاعر :


ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا

[ ص: 466 ] يقال منه : " فاء فلان يفيء فيئة " - مثل " الجيئة " و" فيأ " . و" الفيئة " المرة . فأما في الظل فإنه يقال : " فاء الظل يفيء فيوءا وفيأ " ، وقد يقال : " فيوءا " أيضا في المعنى الأول ، لأن " الفيء " في كل الأشياء بمعنى الرجوع .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أنهم اختلفوا فيما يكون به المولي فائيا .

فقال بعضهم : لا يكون فائيا إلا بالجماع .

ذكر من قال ذلك :

4509 - حدثنا علي بن سهل الرملي قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : الفيء الجماع .

4510 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو نعيم عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : الفيء الجماع .

4511 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس مثله .

4512 - حدثنا محمد بن يحيى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد عن صاحب له ، عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس مثله . [ ص: 467 ]

4513 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان عن حصين عن الشعبي عن مسروق قال : الفيء الجماع .

4514 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن حصين عن الشعبي عن مسروق مثله .

4515 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال : أخبرنا محمد بن يزيد عن إسماعيل قال : كان عامر لا يرى الفيء إلا الجماع .

4516 - حدثنا تميم بن المنتصر قال : أخبرنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا إسماعيل عن عامر بمثله .

4517 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان عن علي بن بذيمة عن سعيد بن جبير قال : الفيء الجماع .

4518 - حدثنا أبو عبد الله النشائي قال : حدثنا إسحاق الأزرق عن سفيان عن علي بن بذيمة عن سعيد بن جبير مثله .

4519 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة عن سعيد بن جبير قال : الفيء الجماع ، لا عذر له إلا أن يجامع وإن كان في سجن أو سفر - سعيد القائل .

4520 - حدثني محمد بن يحيى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد عن قتادة عن سعيد بن جبير أنه قال : لا عذر له حتى يغشى .

4521 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا حماد عن حماد وإياس عن الشعبي قال أحدهما : عن مسروق قال : الفيء الجماع وقال الآخر : عن الشعبي : الفيء الجماع . [ ص: 468 ]

4522 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب - في رجل آلى من امرأته ، ثم شغله مرض - قال : لا عذر له حتى يغشى .

4523 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثني أبي ، عن قتادة عن سعيد بن جبير - في الرجل يولي من امرأته قبل أن يدخل بها أو بعد ما دخل بها ، فيعرض له عارض يحبسه ، أو لا يجد ما يسوق : أنه إذا مضت أربعة أشهر ، أنها أحق بنفسها .

4524 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن منصور عن الحكم والشعبي قالا إذا آلى الرجل من امرأته ، ثم أراد أن يفيء ، فلا فيء إلا الجماع .

وقال آخرون : " الفيء " : المراجعة باللسان أو القلب في حال العذر ، وفي غير حال العذر الجماع .

ذكر من قال ذلك :

4525 - حدثنا محمد بن يحيى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن وعكرمة أنهما قالا إذا كان له عذر فأشهد ، فذاك له يعني في رجل آلى من امرأته فشغله مرض أو طريق ، فأشهد على مراجعة امرأته .

4526 - حدثنا محمد بن يحيى قال : أخبرنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد عن صاحب له عن الحكم قال : تذاكرنا أنا والنخعي ذاك ، فقال النخعي : إذا كان له عذر فأشهد ، فقد فاء . وقلت أنا : لا عذر له حتى يغشى . فانطلقنا إلى أبي وائل فقال : إني أرجو إذا كان له عذر فأشهد ، جاز . [ ص: 469 ]

4527 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة عن الحسن قال : إن آلى ، ثم مرض أو سجن أو سافر فراجع ، فإن له عذرا أن لا يجامع ، قال : وسمعت الزهري يقول مثل ذلك .

4528 - حدثني المثنى قال : حدثنا حبان بن موسى قال : أخبرنا ابن المبارك قال : أخبرنا أبو عوانة عن مغيرة عن إبراهيم - في النفساء يولي منها زوجها - قال : هذه في محارب ، سئل عنها أصحاب عبد الله فقالوا : إذا لم يستطع كفر عن يمينه ، وأشهد على الفيء .

4529 - حدثنا أبو السائب قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي الشعثاء قال : نزل به ضيف فآلى من امرأته فنفست ، فأراد أن يفيء ، فلم يستطع أن يقربها من أجل نفاسها ، فأتى علقمة فذكر ذلك له ، فقال : أليس قد فئت بقلبك ورضيت؟ قال : بلى! قال : فقد فئت! هي امرأتك !

4530 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن الأعمش عن إبراهيم : أن رجلا آلى من امرأته فولدت قبل أن تمضي أربعة أشهر ، أراد الفيئة فلم يستطع من أجل الدم حتى مضت أربعة أشهر ، فسأل عنها علقمة بن قيس فقال : أليس قد راجعتها في نفسك؟ قال : بلى! قال : فهي امرأتك .

4531 - حدثنا عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث قال : أخبرنا عامر [ ص: 470 ] عن الحسن قال : إذا آلى من امرأته ثم لم يقدر أن يغشاها من عذر ، قال : يشهد أنه قد فاء ، وهي امرأته .

4532 - حدثنا عمران قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا عامر عن حماد عن إبراهيم عن علقمة بمثله .

4533 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثنى أبي ، عن قتادة عن عكرمة قال : وحدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد عن قتادة عن عكرمة قال : إذا آلى من امرأته فجهد أن يغشاها فلم يستطع ، فله أن يشهد على رجعتها .

4534 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن الحسن وعكرمة : أنهما سئلا عن رجل آلى من امرأته ، فشغله أمر ، فأشهد على مراجعة امرأته ، قالا : إذا كان له عذر فذاك له .

4535 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا غندر قال : حدثنا شعبة عن الحكم قال : انطلقت أنا وإبراهيم إلى أبي الشعثاء فحدث أن رجلا من بني سعد بن همام آلى من امرأته فنفست ، فلم يستطع أن يقربها ، فسأل الأسود - أو بعض أصحاب عبد الله - فقال : إذا أشهد فهي امرأته .

4536 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا غندر قال : حدثنا شعبة عن حماد عن إبراهيم أنه قال : إن كان له عذر فأشهد ، فذلك له - يعني المولي من امرأته .

4537 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن مغيرة عن إبراهيم : أنه كان يحدث عن أبي الشعثاء عن علقمة وأصحاب عبد الله أنهم قالوا - في الرجل إذا آلى من امرأته فنفست - قالوا : إذا أشهد فهي امرأته .

4538 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن مغيرة عن حماد قال : [ ص: 471 ] إذا آلى الرجل من امرأته ثم فاء ، فليشهد على فيئه . وإذا آلى الرجل من امرأته وهو في أرض غير الأرض التي فيها امرأته ، فليشهد على فيئه . فإن أشهد وهو لا يعلم أن ذلك لا يجزيه من وقوعه عليها ، فمضت أربعة أشهر قبل أن يجامعها ، فهي امرأته . وإن علم أنه لا فيء إلا في الجماع في هذا الباب ، ففاء وأشهد على فيئه ولم يقع عليها حتى مضت أربعة أشهر ، فقد بانت منه .

4539 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني يونس قال : قال ابن شهاب : حدثني سعيد بن المسيب : أنه إذا آلى الرجل من امرأته ، قال : فإن كان به مرض ولا يستطيع أن يمسها ، أو كان مسافرا فحبس ، قال : فإذا فاء وكفر عن يمينه ، فأشهد على فيئه قبل أن تمضي أربعة أشهر ، فلا نراه إلا قد صلح له أن يمسك امرأته ، ولم يذهب من طلاقها شيء . قال : وقال ابن شهاب - في رجل يولي من امرأته ، ولم يبق لها عليه إلا تطليقة ، فيريد أن يفيء في آخر ذلك وهو مريض أو مسافر ، أو هي مريضة أو طامث أو غائبة لا يقدر على أن يبلغها ، حتى تمضي أربعة أشهر - أله في شيء من ذلك رخصة ، أن يكفر عن يمينه ولم يقدر على أن يطأ امرأته؟ قال : نرى ، والله أعلم ، إن فاء قبل الأربعة الأشهر فهي امرأته ، بعد أن يشهد على ذلك ، ويكفر عن يمينه ، وإن لم يبلغها ذلك من فيئته ، فإنه قد فاء قبل أن يكون طلاقا .

4540 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قال : الفيء الجماع . فإن هو لم يقدر على المجامعة وكانت به علة مرض أو كان غائبا أو كان محرما أو شيء له فيه عذر ، ففاء بلسانه وأشهد على الرضا ، فإن ذلك له فيء إن شاء الله .

وقال آخرون : " الفيء " المراجعة باللسان بكل حال .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 472 ]

4541 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا الضحاك بن مخلد عن سفيان عن منصور وحماد عن إبراهيم قال : الفيء أن يفيء بلسانه .

4542 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا حماد بن سلمة عن زياد الأعلم عن الحسن قال : الفيء الإشهاد .

4543 - حدثنا المثنى قال : حدثني الحجاج قال : حدثنا حماد عن زياد الأعلم عن الحسن مثله .

4544 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال : إن فاء في نفسه أجزأه ، يقول : قد فاء .

4545 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن إسماعيل بن رجاء قال : ذكروا الإيلاء عند إبراهيم فقال : أرأيت إن لم ينتشر ذكره ؟ إذا أشهد فهي امرأته .

قال أبو جعفر : وإنما اختلف المختلفون في تأويل " الفيء " على قدر اختلافهم في معنى اليمين التي تكون " إيلاء " .

فمن كان من قوله : إن الرجل لا يكون موليا من امرأته الإيلاء الذي ذكره الله في كتابه إلا بالحلف عليها أن لا يجامعها ، جعل الفيء الرجوع إلى فعل ما حلف عليه أن لا يفعله من جماعها ، وذلك الجماع في الفرج إذا قدر على ذلك وأمكنه وإذا لم يقدر عليه ولم يمكنه ، فإحداث النية أن يفعله إذا قدر عليه وأمكنه [ ص: 473 ] وإبداء ما نوى من ذلك بلسانه ليعلمه المسلمون ، في قول من قال ذلك .

وأما قول من رأى أن الفيء هو الجماع دون غيره ، فإنه لم يجعل العائق له عذرا ، ولم يجعل له مخرجا من يمينه غير الرجوع إلى ما حلف على تركه ، وهو الجماع .

وأما من كان من قوله أنه قد يكون موليا منها بالحلف على ترك كلامها ، أو على أن يسوءها أو يغيظها أو ما أشبه ذلك من الأيمان ، فإن الفيء عنده الرجوع إلى ترك ما حلف عليه أن يفعله - مما فيه من مساءتها - بالعزم على الرجوع عنه ، وإبداء ذلك بلسانه ، في كل حال عزم فيها على الفيء .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصحة في ذلك عندنا ، قول من قال : " الفيء هو الجماع " ، لأن الرجل لا يكون موليا عندنا من امرأته إلا بالحلف على ترك جماعها المدة التي ذكرنا ، للعلل التي وصفنا قبل . فإذ كان ذلك هو الإيلاء ، فالفيء الذي يبطل حكم الإيلاء عنه ، لا شك أنه غير جائز أن يكون إلا ما كان للذي آلى عليه خلافا . لأنه لما جعل حكمه إن لم يفئ إلى ما آلى على تركه ، الحكم الذي بينه الله لهم في كتابه ، كان الفيء إلى ذلك معلوم أنه فعل ما آلى على تركه إن أطاقه ، وذلك هو الجماع . غير أنه إذا حيل بينه وبين الفيء - الذي [ ص: 474 ] هو جماع - بعذر ، فغير جائز أن يكون تاركا جماعها على الحقيقة . لأن المرء إنما يكون تاركا ما له إلى فعله وتركه سبيل . فأما من لم يكن له إلى فعل أمر سبيل ، فغير كائن تاركه .

وإذ كان ذلك كذلك ، فإحداث العزم في نفسه على جماعها ، مجزئ عنه في حال العذر ، حتى يجد السبيل إلى جماعها . وإن أبدى ذلك بلسانه وأشهد على نفسه في تلك الحال بالأوبة والفيء ، كان أعجب إلي .

التالي السابق


الخدمات العلمية