القول في تأويل 
قوله تعالى ( لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده  ) 
قال 
أبو جعفر   : اختلفت القرأة في قراءة ذلك . فقرأه عامة قرأة أهل 
الحجاز  والكوفة  والشام   : " لا تضار والدة بولدها " بفتح " الراء " بتأويل : لا تضارر على وجه النهي ، وموضعه إذا قرئ كذلك - جزم ، غير أنه حرك ، إذ ترك التضعيف بأخف الحركات ، وهو الفتح . ولو حرك إلى الكسر كان جائزا ، إتباعا لحركة لام الفعل حركة عينه . وإن شئت فلأن الجزم إذا حرك حرك إلى الكسر .  
[ ص: 47 ] وقرأ ذلك بعض أهل 
الحجاز  وبعض أهل البصرة : " لا تضار والدة بولدها " رفع . ومن قرأه كذلك لم تحتمل قراءته معنى النهي ، ولكنها تكون [ على معنى ] الخبر ، عطفا بقوله : " لا تضار " على قوله : " لا تكلف نفس إلا وسعها " . 
وقد زعم بعض نحويي 
البصرة  أن معنى من رفع : " لا تضار والدة بولدها " هكذا في الحكم : - أنه لا تضار والدة بولدها - أي : ما ينبغي أن تضار . فلما حذفت " ينبغي " وصار " تضار " في موضعه ، صار على لفظه ، واستشهد لذلك بقول الشاعر :  
[ ص: 48 ] على الحكم المأتي يوما إذا قضى قضيته ، أن لا يجور ويقصد 
فزعم أنه رفع " يقصد " بمعنى " ينبغي " . والمحكي عن العرب سماعا غير الذي قال . وذلك أنه روي عنهم سماعا : " فتصنع ماذا " إذا أرادوا أن يقولوا : " فتريد أن تصنع ماذا " فينصبونه بنية " أن " . وإذا لم ينووا " أن " ولم يريدوها ، قالوا : " فتريد ماذا " فيرفعون " تريد " لأن لا جالب ل " أن " قبله ، كما كان له جالب قبل " تصنع " . فلو كان معنى قوله " لا تضار " إذا قرئ رفعا بمعنى : " ينبغي أن لا تضار " أو " ما ينبغي أن تضار " ثم حذف " ينبغي " و " أن " وأقيم " تضار " مقام " ينبغي " لكان الواجب أن يقرأ - إذا قرئ بذلك المعنى - نصبا لا رفعا ، ليعلم بنصبه المتروك قبله المعنى المراد ، كما فعل بقوله : " فتصنع ماذا " ولكن معنى ذلك ما قلنا إذا رفع على العطف على " تكلف " : ليست تكلف نفس إلا وسعها ، وليست تضار والدة بولدها . يعني بذلك أنه ليس ذلك في دين الله وحكمه وأخلاق المسلمين . 
قال 
أبو جعفر   : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ بالنصب ، لأنه نهي من الله - تعالى ذكره - كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه له ، حرام عليهما ذلك بإجماع المسلمين . فلو كان ذلك خبرا ، لكان حراما عليهما ضرارهما به كذلك .  
[ ص: 49 ] وبما قلنا في ذلك - من أن ذلك بمعنى النهي - تأوله أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
4974 - حدثنا 
محمد بن عمرو  قال : حدثنا 
أبو عاصم  ، عن 
عيسى  ، عن 
ابن أبي نجيح  ، عن 
مجاهد   : " 
لا تضار والدة بولدها  " لا تأبى أن ترضعه ليشق ذلك على أبيه ، ولا يضار الوالد بولده ، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها . 
4975 - حدثني 
المثنى  قال : حدثنا 
أبو حذيفة  قال : حدثنا 
شبل  ، عن 
ابن أبي نجيح  ، عن 
مجاهد  مثله . 
4976 - حدثنا 
بشر بن معاذ  قال : حدثنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=17360يزيد بن زريع  قال : حدثنا 
سعيد  ، عن 
قتادة  قوله : " 
لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده  " قال : نهى الله تعالى عن الضرار وقدم فيه ، فنهى الله أن يضار الوالد فينتزع الولد من أمه ، إذا كانت راضية بما كان مسترضعا به غيرها ونهيت الوالدة أن تقذف الولد إلى أبيه ضرارا . 
4977 - حدثنا 
الحسن بن يحيى  قال : أخبرنا 
عبد الرزاق  قال : أخبرنا 
معمر  ، عن 
قتادة  في قوله : " 
لا تضار والدة بولدها  " ترمي به إلى أبيه ضرارا ، " ولا مولود له بولده " يقول : ولا الوالد ، فينتزعه منها ضرارا ، إذا رضيت من أجر الرضاع ما رضي به غيرها ، فهي أحق به إذا رضيت بذلك . 
4978 - حدثت عن 
عمار  قال : حدثنا 
ابن أبي جعفر  ، عن أبيه ، عن 
يونس  ، عن 
الحسن   : " 
لا تضار والدة بولدها  " قال : ذلك إذا طلقها ، فليس له أن يضارها فينتزع الولد منها ، إذا رضيت منه بمثل ما يرضى به غيرها وليس لها أن تضاره فتكلفه ما لا يطيق ، إذا كان إنسانا مسكينا ، فتقذف إليه ولده . 
4979 - حدثني 
المثنى  قال : حدثنا 
إسحاق  قال : حدثنا 
أبو زهير  ، عن 
جويبر  ، عن 
الضحاك   : " 
لا تضار والدة بولدها  " لا تضار أم بولدها ولا أب بولده . يقول : لا تضار أم بولدها فتقذفه إليه إذا كان الأب حيا ، أو إلى عصبته  
[ ص: 50 ] إذا كان الأب ميتا . ولا يضار الأب المرأة إذا أحبت أن ترضع ولدها ولا ينزعه . 
4980 - حدثني 
موسى  قال : حدثنا 
عمرو  قال : حدثنا 
أسباط  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي   : " 
لا تضار والدة بولدها  " يقول : لا ينزع الرجل ولده من امرأته فيعطيه غيرها بمثل الأجر الذي تقبله هي به ولا تضار والدة بولدها ، فتطرح الأم إليه ولده ، تقول : " لا أليه ساعة " تضيعه ، ولكن عليها من الحق أن ترضعه حتى يطلب مرضعا . 
4981 - حدثني 
المثنى  قال : حدثنا 
عبد الله بن صالح  قال : حدثني 
الليث  قال : حدثني 
عقيل  ، عن 
ابن شهاب   - وسئل عن قول الله - تعالى ذكره - " 
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين  " إلى " 
لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده  " قال 
ابن شهاب   : والوالدات أحق برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر ، وليس للوالدة أن تضار بولدها فتأبى رضاعه ، مضارة وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها من الأجر . وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته مضارا لها ، وهي تقبل من الأجر ما يعطاه غيرها . 
4982 - حدثنا 
ابن حميد  قال : حدثنا 
مهران  ، وحدثني 
علي  قال : حدثنا 
زيد  جميعا ، عن 
سفيان  في قوله : " 
لا تضار والدة بولدها  " لا ترم بولدها إلى الأب إذا فارقها ، تضاره بذلك " 
ولا مولود له بولده  " ولا ينزع الأب منها ولدها ، يضارها بذلك . 
4983 - حدثني 
يونس  قال : أخبرنا 
ابن وهب  قال : قال 
ابن زيد  في قوله : " 
لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده  " قال : لا ينزعه منها وهي تحب أن ترضعه فيضارها ، ولا تطرحه عليه وهو لا يجد من ترضعه ، ولا يجد ما يسترضعه به . 
4984 - حدثنا 
عمرو بن علي الباهلي  قال : حدثنا 
أبو عاصم  قال : حدثني  
[ ص: 51 ]  nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج  ، عن 
عطاء  في قوله : " 
لا تضار والدة بولدها  " قال : لا تدعنه ورضاعه ، من شنآنها مضارة لأبيه ، ولا يمنعها الذي عنده مضارة لها . 
وقال بعضهم : " الوالدة " التي نهى الرجل عن مضارتها : ظئر الصبي . 
ذكر من قال ذلك : 
4985 - حدثني 
المثنى  قال : حدثنا 
مسلم بن إبراهيم  قال : حدثنا هارون النحوي قال : حدثنا 
الزبير بن الخريت ،  عن 
عكرمة  في قوله : " 
لا تضار والدة بولدها  " قال : هي الظئر . 
فمعنى الكلام : لا يضارر والد مولود والدته بمولوده منها ، ولا والدة مولود والده بمولودها منه . ثم ترك ذكر الفاعل في " يضار " فقيل : لا تضارر والدة بولدها ولا مولود له بولده ، كما يقال إذا نهي عن إكرام رجل بعينه فيما لم يسم فاعله ، ولم يقصد بالنهي عن إكرامه قصد شخص بعينه : " لا يكرم 
عمرو ،  ولا يجلس إلى أخيه " ثم ترك التضعيف فقيل : " لا تضار " فحركت الراء الثانية التي كانت مجزومة - لو أظهر التضعيف - بحركة الراء الأولى .  
[ ص: 52 ] وقد زعم بعض أهل العربية أنها إنما حركت إلى الفتح في هذا الموضع ، لأنه آخر الحركات . وليس للذي قال من ذلك معنى . لأن ذلك إنما كان جائزا أن يكون كذلك ، لو كان معنى الكلام : لا تضارر والدة بولدها ، وكان المنهي عن الضرار هي الوالدة . على أن معنى الكلام لو كان كذلك ، لكان الكسر في " تضار " أفصح من الفتح ، والقراءة به كانت أصوب من القراءة بالفتح ، كما أن : " مد بالثوب " أفصح من " مد به " . وفي إجماع القرأة على قراءة : " لا تضار " بالفتح دون الكسر ، دليل واضح على إغفال من حكيت قوله من أهل العربية في ذلك . 
فإن كان قائل ذلك قاله توهما منه أنه معنى ذلك : لا تضارر والدة ، وأن " الوالدة " مرفوعة بفعلها ، وأن " الراء " الأولى حظها الكسر ، فقد أغفل تأويل الكلام ، وخالف قول جميع من حكينا قوله من أهل التأويل . وذلك أن الله - تعالى ذكره - تقدم إلى كل أحد من أبوي المولود بالنهي عن ضرار صاحبه بمولودهما لا أنه نهى كل واحد منهما عن أن يضار المولود . وكيف يجوز أن ينهاه عن مضارة الصبي ،  
[ ص: 53 ] والصبي في حال ما هو رضيع - غير جائز أن يكون منه ضرار لأحد؟ فلو كان ذلك معناه ، لكان التنزيل : لا تضر والدة بولدها . 
وقد زعم آخرون من أهل العربية أن الكسر في " تضار " جائز . والكسر في ذلك عندي في هذا الموضع غير جائز ، لأنه إذا كسر تغير معناه عن معنى : لا تضارر " - الذي هو في مذهب ما لم يسم فاعله - إلى معنى " تضارر " الذي هو في مذهب ما قد سمي فاعله . 
قال 
أبو جعفر   : فإذ كان الله - تعالى ذكره - قد نهى كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه بسبب ولدهما ، فحق على إمام المسلمين إذا أراد الرجل نزع ولده من أمه بعد بينونتها منه ، وهي تحضنه وتكفله وترضعه ، بما يحضنه به غيرها ويكفله به ويرضعه من الأجرة أن يأخذ الوالد بتسليم ولدها ، ما دام محتاجا الصبي ، إليها في ذلك بالأجرة التي يعطاها غيرها وحق عليه إذا كان الصبي لا يقبل ثدي غير  
[ ص: 54 ] والدته ، أو كان المولود له لا يجد من يرضع ولده وإن كان يقبل ثدي غير أمه ، أو كان معدما لا يجد ما يستأجر به مرضعا ، ولا يجد ما يتبرع عليه برضاع مولوده . أن يأخذ والدته البائنة من والده برضاعه وحضانته . لأن الله - تعالى ذكره - إن حرم على كل واحد من أبويه ضرار صاحبه بسببه ، فالإضرار به أحرى أن يكون محرما ، مع ما في الإضرار به من مضارة صاحبه .