صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " ومتعوهن " وأعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم ، على أقداركم ومنازلكم من الغنى والإقتار .

[ ص: 121 ] ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ ما أمر الله به الرجال من ذلك .

فقال بعضهم : أعلاه الخادم ، ودون ذلك الورق ، ودونه الكسوة .

ذكر من قال ذلك :

5193 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : متعة الطلاق أعلاه الخادم ، ودون ذلك الورق ، ودون ذلك الكسوة .

5194 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية ، عن عكرمة ، عن ابن عباس بنحوه .

5195 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن داود ، عن الشعبي قوله : " ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " قلت له : ما أوسط متعة المطلقة؟ قال : خمارها ودرعها وجلبابها وملحفتها .

5196 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين " فهذا الرجل يتزوج المرأة ولم يسم لها صداقا ، ثم يطلقها من قبل أن ينكحها ، فأمر الله سبحانه أن يمتعها على قدر عسره ويسره . فإن كان موسرا متعها بخادم أو شبه ذلك ، وإن كان معسرا متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك .

5197 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي في قوله : " ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " قال : قلت للشعبي : ما وسط ذلك؟ قال : كسوتها في بيتها ، ودرعها وخمارها وملحفتها وجلبابها .

قال الشعبي : فكان شريح يمتع بخمسمائة .

[ ص: 122 ] 5198 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا داود ، عن عامر : أن شريحا كان يمتع بخمسمائة ، قلت لعامر : ما وسط ذلك؟ قال : ثيابها في بيتها ، درع وخمار وملحفة وجلباب .

5199 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن عامر الشعبي أنه قال : وسط من المتعة ثياب المرأة في بيتها ، درع وخمار وملحفة وجلباب .

5200 - حدثنا عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا داود ، عن الشعبي : أن شريحا متع بخمسمائة . وقال الشعبي : وسط من المتعة ، درع وخمار وجلباب وملحفة .

5201 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين " قال : هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمي لها صداقا ، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، فلها متاع بالمعروف ولا صداق لها . قال : أدنى ذلك ثلاثة أثواب ، درع وخمار ، وجلباب وإزار .

5202 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن " حتى بلغ : " حقا على المحسنين " فهذا في الرجل يتزوج المرأة ولا يسمي لها صداقا ، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، فلها متاع بالمعروف ، ولا فريضة لها . وكان يقال : إذا كان واجدا فلا بد من مئزر وجلباب ودرع وخمار .

5203 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن صالح بن صالح ، قال : سئل عامر : بكم يمتع الرجل امرأته؟ قال : على قدر ماله .

[ ص: 123 ] 5204 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم قال : سمعت حميد بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن أمه قالت : كأني أنظر إلى جارية سوداء ، حممها عبد الرحمن أم أبي سلمة حين طلقها .

قيل لشعبة : ما " حممها " ؟ قال . متعها .

5205 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أمه ، بنحوه ، عن عبد الرحمن بن عوف .

5206 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين قال : كان يمتع بالخادم ، أو بالنفقة أو الكسوة . قال : ومتع الحسن بن علي - أحسبه قال : بعشرة آلاف .

5207 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعد بن إبراهيم : أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته فمتعها بالخادم .

5208 - حدثت عن عبد الله بن يزيد المقري ، عن سعيد بن أبي أيوب قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب : أنه كان يقول في متعة المطلقة : أعلاه الخادم ، وأدناه الكسوة والنفقة . ويرى أن ذلك على ما قال الله - تعالى ذكره - : [ ص: 124 ] " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره "

وقال آخرون : مبلغ ذلك - إذا اختلف الزوج والمرأة فيه - قدر نصف صداق مثل تلك المرأة المنكوحة بغير صداق مسمى في عقده . وذلك قول أبي حنيفة وأصحابه .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قال ابن عباس ومن قال بقوله : من أن الواجب من ذلك للمرأة المطلقة على الرجل على قدر عسره ويسره ، كما قال الله - تعالى ذكره - : " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " لا على قدر المرأة . ولو كان ذلك واجبا للمرأة على قدر صداق مثلها إلى قدر نصفه ، لم يكن لقيله - تعالى ذكره - : " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " معنى مفهوم ولكان الكلام : ومتعوهن على قدرهن وقدر نصف صداق أمثالهن .

وفي إعلام الله - تعالى ذكره - عباده أن ذلك على قدر الرجل في عسره ويسره ، لا على قدرها وقدر نصف صداق مثلها ، ما يبين عن صحة ما قلنا ، وفساد ما خالفه . وذلك أن المرأة قد يكون صداق مثلها المال العظيم ، والرجل في حال طلاقه إياها مقتر لا يملك شيئا ، فإن قضي عليه بقدر نصف صداق مثلها ، ألزم ما يعجز عنه بعض من قد وسع عليه ، فكيف المقدور عليه؟ وإذا فعل ذلك به ، كان الحاكم بذلك عليه قد تعدى حكم قول الله - تعالى ذكره - : " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " - ولكن ذلك على قدر عسر الرجل ويسره ، لا يجاوز بذلك خادم أو قيمتها ، إن كان الزوج موسعا . وإن كان مقترا ، فأطاق أدنى ما يكون كسوة لها ، وذلك ثلاثة أثواب ونحو ذلك ، قضي عليه بذلك . وإن كان عاجزا عن ذلك ، فعلى قدر طاقته . وذلك على قدر اجتهاد الإمام العادل عند الخصومة إليه فيه .

[ ص: 125 ] واختلف أهل التأويل في تأويل قوله . " ومتعوهن " هل هو على الوجوب ، أو على الندب؟

فقال بعضهم : هو على الوجوب ، يقضى بالمتعة في مال المطلق ، كما يقضى عليه بسائر الديون الواجبة عليه لغيره . وقالوا : ذلك واجب عليه لكل مطلقة ، كائنة من كانت من نسائه .

ذكر من قال ذلك :

5209 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن وأبو العالية يقولان : لكل مطلقة متاع ، دخل بها أو لم يدخل بها ، وإن كان قد فرض لها .

5210 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس : أن الحسن كان يقول : لكل مطلقة متاع ، وللتي طلقها قبل أن يدخل بها ولم يفرض لها .

5211 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا أيوب ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية : ( وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ) [ سورة البقرة : 241 ] ، قال : لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين .

5212 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : لكل مطلقة متاع .

5213 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : كان أبو العالية يقول : لكل مطلقة متعة . وكان الحسن يقول : لكل مطلقة متعة .

5214 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو عامر قال : حدثنا قرة قال : سئل الحسن ، عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها ، وقد فرض لها : هل لها متاع؟ قال الحسن : نعم والله! فقيل للسائل وهو أبو بكر الهذلي أو ما تقرأ [ ص: 126 ] هذه الآية : ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ) ؟ قال : نعم والله ! .

وقال آخرون : المتعة للمطلقة على زوجها المطلقها واجبة ، ولكنها واجبة لكل مطلقة سوى المطلقة المفروض لها الصداق . فأما المطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل الدخول بها ، فإنها لا متعة لها ، وإنما لها نصف الصداق المسمى .

ذكر من قال ذلك :

5215 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا عبيد الله ، عن نافع : أن ابن عمر كان يقول : لكل مطلقة متعة ، إلا التي طلقها ولم يدخل بها ، وقد فرض لها ، فلها نصف الصداق ، ولا متعة لها .

5216 - حدثنا تميم بن المنتصر قال : أخبرنا عبد الله بن نمير ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر بنحوه .

5217 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب - في الذي يطلق امرأته وقد فرض لها - أنه قال في المتاع : قد كان لها المتاع في الآية التي في " الأحزاب " فلما نزلت الآية التي في " البقرة " جعل لها النصف من صداقها إذا سمى ، ولا متاع لها ، وإذا لم يسم فلها المتاع .

5218 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد نحوه .

5219 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان سعيد بن المسيب يقول : إذا لم يدخل بها جعل لها في " سورة [ ص: 127 ] الأحزاب " المتاع ، ثم أنزلت الآية التي في " سورة البقرة " : ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ) ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها ، إذا كان لم يدخل بها ، وكان قد سمى لها صداقا ، فجعل لها النصف ولا متاع لها .

5220 - حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : نسخت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن ) [ سورة الأحزاب : 49 ] الآية التي في " البقرة " .

5221 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن حميد ، عن مجاهد قال : لكل مطلقة متعة ، إلا التي فارقها وقد فرض لها من قبل أن يدخل بها .

5222 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد - في التي يفارقها زوجها قبل أن يدخل بها ، وقد فرض لها ، قال : ليس لها متعة .

5223 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا أيوب ، عن نافع قال : إذا تزوج الرجل المرأة وقد فرض لها ، ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، فلها نصف الصداق ، ولا متاع لها . وإذا لم يفرض لها ، فإنما لها المتاع .

5224 - حدثنا يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : سئل ابن أبي نجيح وأنا أسمع : عن الرجل يتزاوج ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، وقد فرض لها ، هل لها متاع؟ قال : كان عطاء يقول : لا متاع لها .

[ ص: 128 ] 5225 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر - في التي فرض لها ولم يدخل بها ، قال : إن طلقت ، فلها نصف الصداق ولا متعة لها .

5226 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم : أن شريحا كان يقول - في الرجل إذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها ، وقد سمى لها صداقا - قال : لها في النصف متاع .

5227 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : لها في النصف متاع .

وقال آخرون : المتعة حق لكل مطلقة ، غير أن منها ما يقضى به على المطلق ، ومنها ما لا يقضى به عليه ، ويلزمه فيما بينه وبين الله إعطاؤه .

ذكر من قال ذلك :

5228 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري قال : متعتان ، إحداهما يقضي بها السلطان ، والأخرى حق على المتقين : من طلق قبل أن يفرض ويدخل ، فإنه يؤخذ بالمتعة ، فإنه لا صداق عليه . ومن طلق بعد ما يدخل أو يفرض ، فالمتعة حق .

5229 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، قال الله : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين " فإذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها ، ثم طلقها من قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها ، فليس عليه إلا متاع بالمعروف ، يفرض لها السلطان بقدر ، وليس عليها عدة . وقال الله - تعالى ذكره - : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " فإذا طلق الرجل المرأة [ ص: 129 ] وقد فرض لها ولم يمسسها ، فلها نصف صداقها ، ولا عدة عليها .

5230 - حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال : أخبرنا زهير ، عن معمر ، عن الزهري أنه قال : متعتان يقضي بإحداهما السلطان ، ولا يقضى بالأخرى : فالمتعة التي يقضي بها السلطان حقا على المحسنين ، والمتعة التي لا يقضي بها السلطان حقا على المتقين .

وقال آخرون : لا يقضي الحاكم ولا السلطان بشيء من ذلك على المطلق ، وإنما ذلك من الله - تعالى ذكره - ندب وإرشاد إلى أن تمتع المطلقة .

ذكر من قال ذلك :

5231 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم : أن رجلا طلق امرأته ، فخاصمته إلى شريح ، فقرأ الآية : ( وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ) [ سورة البقرة : 241 ] ، قال : إن كنت من المتقين ، فعليك المتعة . ولم يقض لها . قال شعبة : وجدته مكتوبا عندي عن أبي الضحى .

5223 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد قال : كان شريح يقول في متاع المطلقة ، لا تأب أن تكون من المحسنين ، لا تأب أن تكون من المتقين .

5233 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق أن شريحا قال للذي قد دخل بها : إن كنت من المتقين فمتع .



قال أبو جعفر : وكأن قائلي هذا القول ذهبوا في تركهم إيجاب المتعة فرضا [ ص: 130 ] للمطلقات ، إلى أن قول الله - تعالى ذكره - : " حقا على المحسنين " وقوله : " حقا على المتقين " دلالة على أنها لو كانت واجبة وجوب الحقوق اللازمة الأموال بكل حال ، لم يخصص المتقون والمحسنون بأنها حق عليهم دون غيرهم ، بل كان يكون ذلك معموما به كل أحد من الناس .

وأما موجبوها على كل أحد سوى المطلقة المفروض لها الصداق ، فإنهم اعتلوا بأن الله - تعالى ذكره - لما قال : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " كان ذلك دليلا على أن لكل مطلقة متاعا سوى من استثناه الله - تعالى ذكره - في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - . فلما قال : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " كان في ذلك دليل عندهم على أن حقها النصف مما فرض لها ، لأن المتعة جعلها الله في الآية التي قبلها عندهم ، لغير المفروض لها . فكان معلوما عندهم بخصوص الله بالمتعة غير المفروض لها ، أن حكمها غير حكم التي لم يفرض لها إذا طلقها قبل المسيس ، فيما لها على الزوج من الحقوق .

قال أبو جعفر : والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك عندي ، قول من قال : " لكل مطلقة متعة " لأن الله - تعالى ذكره - قال : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " فجعل الله - تعالى ذكره - ذلك لكل مطلقة ، ولم يخصص منهن بعضا دون بعض . فليس لأحد إحالة ظاهر تنزيل عام ، إلى باطن خاص ، إلا بحجة يجب التسليم لها .

فإن قال قائل : فإن الله - تعالى ذكره - قد خص المطلقة قبل المسيس ، إذا كان [ ص: 131 ] مفروضا لها ، بقوله : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " إذ لم يجعل لها غير النصف من الفريضة؟

قيل : إن الله - تعالى ذكره - إذا دل على وجوب شيء في بعض تنزيله ، ففي دلالته على وجوبه في الموضع الذي دل عليه ، الكفاية عن تكريره ، حتى يدل على بطول فرضه . وقد دل بقوله ، " وللمطلقات متاع بالمعروف " على وجوب المتعة لكل مطلقة ، فلا حاجة بالعباد إلى تكرير ذلك في كل آية وسورة . وليس في دلالته على أن للمطلقة قبل المسيس المفروض لها الصداق نصف ما فرض لها ، دلالة على بطول المتعة عنه . لأنه غير مستحيل في الكلام لو قيل : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " والمتعة . فلما لم يكن ذلك محالا في الكلام ، كان معلوما أن نصف الفريضة إذا وجب لها ، لم يكن في وجوبه لها نفي عن حقها من المتعة ، ولما لم يكن اجتماعهما للمطلقة محالا . وكان الله - تعالى ذكره - قد دل على وجوب ذلك لها ، وإن كانت الدلالة على وجوب أحدهما في آية غير الآية التي فيها الدلالة على وجوب الأخرى ثبت وصح وجوبهما لها .

هذا ، إذا لم يكن على أن للمطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل [ ص: 132 ] المسيس ، دلالة غير قول الله - تعالى ذكره - : " وللمطلقات متاع بالمعروف " فكيف وفي قول الله - تعالى ذكره - : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن " الدلالة الواضحة على أن المفروض لها إذا طلقت قبل المسيس ، لها من المتعة مثل الذي لغير المفروض لها منها؟ وذلك أن الله - تعالى ذكره - لما قال : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ، " كان معلوما بذلك أنه قد دل به على حكم طلاق صنفين من طلاق النساء : أحدهما المفروض له ، والآخر غير المفروض له . وذلك أنه لما قال : " أو تفرضوا لهن فريضة " علم أن الصنف الآخر هو المفروض له ، وأنها المطلقة المفروض لها قبل المسيس . لأنه قال : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ، " ثم قال - تعالى ذكره - : " ومتعوهن " فأوجب المتعة للصنفين منهن جميعا ، المفروض لهن ، وغير المفروض لهن . فمن ادعى أن ذلك لأحد الصنفين ، سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير ، ثم عكس عليه القول في ذلك . فلن يقول في شيء منه قولا إلا ألزم في الآخر مثله .

قال أبو جعفر : وأرى أن المتعة للمرأة حق واجب إذا طلقت ، على زوجها المطلقها ، على ما بينا آنفا - يؤخذ بها الزوج كما يؤخذ بصداقها ، لا يبرئه منها إلا أداؤه إليها أو إلى من يقوم مقامها في قبضها منه ، أو ببراءة تكون منها له . وأرى أن سبيلها سبيل صداقها وسائر ديونها قبله ، يحبس بها إن طلقها فيها ، إذا لم يكن له شيء ظاهر يباع عليه ، إذا امتنع من إعطائها ذلك .

وإنما قلنا ذلك ، لأن الله - تعالى ذكره - قال : " ومتعوهن ، " فأمر الرجال أن يمتعوهن ، وأمره فرض ، إلا أن يبين - تعالى ذكره - أنه عنى به الندب والإرشاد ، لما [ ص: 133 ] قد بينا في كتابنا المسمى ( ( بلطيف البيان عن أصول الأحكام ) ) ، لقوله : " وللمطلقات متاع بالمعروف " . ولا خلاف بين جميع أهل التأويل أن معنى ذلك : وللمطلقات على أزواجهن متاع بالمعروف . وإذا كان ذلك كذلك ، فلن يبرأ الزوج مما لها عليه إلا بما وصفنا قبل ، من أداء أو إبراء على ما قد بينا .

فإن ظن ذو غباء أن الله - تعالى ذكره - إذ قال : " حقا على المحسنين " و " حقا على المتقين " أنها غير واجبة ، لأنها لو كانت واجبة لكانت على المحسن وغير المحسن ، والمتقي وغير المتقي فإن الله - تعالى ذكره - قد أمر جميع خلقه بأن يكونوا من المحسنين ومن المتقين ، وما وجب من حق على أهل الإحسان والتقى ، فهو على غيرهم أوجب ، ولهم ألزم .

وبعد ، فإن في إجماع الحجة على أن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس واجبة بقوله : " ومتعوهن " وجوب نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس بقول الله - تعالى ذكره - فيما أوجب لهما من [ ص: 134 ] ذلك ، الدليل الواضح أن ذلك حق واجب لكل مطلقة بقوله : " وللمطلقات متاع بالمعروف " وإن كان قال : " حقا على المتقين " .

ومن أنكر ما قلنا في ذلك ، سئل عن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس . فإن أنكر وجوب ذلك خرج من قول جميع الحجة ، ونوظر مناظرتنا المنكرين في عشرين دينارا زكاة ، والدافعين زكاة العروض إذا كانت للتجارة ، وما أشبه ذلك . فإن أوجب ذلك لها ، سئل الفرق بين وجوب ذلك لها ، والوجوب لكل مطلقة ، وقد شرط فيما جعل لها من ذلك بأنه حق على المحسنين ، كما شرط فيما جعل للآخر بأنه حق على المتقين . فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله .

قال أبو جعفر : وأجمع الجميع على أن المطلقة غير المفروض لها قبل المسيس ، لا شيء لها على زوجها المطلقها غير المتعة .

ذكر بعض من قال ذلك من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم :

5234 - حدثنا أبو كريب ويونس بن عبد الأعلى قالا : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يفرض لها وقبل أن يدخل بها ، فليس لها إلا المتاع .

5235 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس قال : قال الحسن : إن طلق الرجل امرأته ولم يدخل بها ولم يفرض لها ، فليس لها إلا المتاع .

[ ص: 135 ] 5236 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : أخبرنا أيوب ، عن نافع قال : إذا تزوج الرجل المرأة ثم طلقها ولم يفرض لها ، فإنما لها المتاع .

5237 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب قال : إذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها ، ثم طلقها قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها ، فليس لها عليه إلا المتاع بالمعروف .

5238 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة " قال : ليس لها صداق إلا متاع بالمعروف .

5239 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه - إلا أنه قال : ولا متاع إلا بالمعروف .

5240 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن " إلى : " ومتعوهن " قال : هذا الرجل توهب له فيطلقها قبل أن يدخل بها ، فإنما عليه المتعة .

5241 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال في هذه الآية : هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمي لها صداقا ، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، فلها متاع بالمعروف ، ولا فريضة لها .

5242 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

5243 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، [ حدثنا عبيد بن سليمان قال ] ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة " هذا رجل وهبت له امرأته ، فطلقها من قبل أن يمسها ، فلها المتعة ولا فريضة لها ، وليست عليها عدة .

[ ص: 136 ] قال أبو جعفر : وأما " الموسع " فهو الذي قد صار من عيشه إلى سعة وغنى ، يقال منه : " أوسع فلان فهو يوسع إيساعا وهو موسع " .

وأما " المقتر " فهو المقل من المال ، يقال : " قد أقتر فهو يقتر إقتارا ، وهو مقتر " .

واختلف القرأة في قراءة " القدر " .

فقرأه بعضهم : " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " . بتحريك " الدال " إلى الفتح من " القدر " توجيها منهم ذلك إلى الاسم من " التقدير " الذي هو من قول القائل : " قدر فلان هذا الأمر " .

وقرأ آخرون بتسكين " الدال " منه ، توجيها منهم ذلك إلى المصدر من ذلك ، كما قال الشاعر .


وما صب رجلي في حديد مجاشع مع القدر ، إلا حاجة لي أريدها



والقول في ذلك عندي أنهما جميعا قراءتان قد جاءت بهما الأمة ، ولا تحيل القراءة بإحداهما معنى في الأخرى ، بل هما متفقتا المعنى . فبأي - القراءتين قرأ القارئ ذلك ، فهو للصواب مصيب .

وإنما يجوز اختيار بعض القراءات على بعض لبينونة المختارة على غيرها بزيادة [ ص: 137 ] معنى أوجبت لها الصحة دون غيرها . وأما إذا كانت المعاني في جميعها متفقة ، فلا وجه للحكم لبعضها بأنه أولى أن يكون مقروءا به من غيره .

قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : لا حرج عليكم ، أيها الناس ، إن طلقتم النساء وقد فرضتم لهن ما لم تماسوهن ، وإن طلقتموهن ما لم تماسوهن قبل أن تفرضوا لهن ، ومتعوهن جميعا على ذي السعة والغنى منكم من متاعهن حينئذ بقدر غناه وسعته ، وعلى ذي الإقتار والفاقة منكم منه بقدر طاقته وإقتاره .

التالي السابق


الخدمات العلمية