1. الرئيسية
  2. تفسير الطبري
  3. تفسير سورة البقرة
  4. القول في تأويل قوله تعالى " إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت "
صفحة جزء
[ ص: 432 ] القول في تأويل قوله ( إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ( 258 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ألم تر يا محمد إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم : " ربي الذي يحيي ويميت " يعني بذلك : ربي الذي بيده الحياة والموت ، يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء . قال : أنا أفعل ذلك ، فأحيي وأميت ، أستحيي من أردت قتله فلا أقتله ، فيكون ذلك مني إحياء له وذلك عند العرب يسمى " إحياء " كما قال - تعالى ذكره - : ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) [ سورة المائدة : 32 ] وأقتل آخر ، فيكون ذلك مني إماتة له . قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - : فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها ، فأت بها - إن كنت صادقا أنك إله - من مغربها ! قال الله - تعالى ذكره - : " فبهت الذي كفر " يعني انقطع وبطلت حجته .

يقال منه : " بهت يبهت بهتا " . وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا المعنى : " بهت " . ويقال : " بهت الرجل " إذا افتريت عليه كذبا " بهتا وبهتانا وبهاتة " .

وقد روي عن بعض القرأة أنه قرأ : " فبهت الذي كفر " بمعنى : فبهت إبراهيم الذي كفر . [ ص: 433 ]

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

5873 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت " وذكر لنا أنه دعا برجلين ففتل أحدهما واستحيا الآخر ، فقال : أنا أحيي هذا ! أنا أستحيي من شئت ، وأقتل من شئت ! قال إبراهيم عند ذلك : " فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب " " فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " .

5874 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : " أنا أحيي وأميت " أقتل من شئت ، وأستحيي من شئت ، أدعه حيا فلا أقتله . وقال : ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان : سليمان بن داود وذو القرنين ، والكافران : بختنصر ونمروذ بن كنعان ، لم يملكها غيرهم .

5875 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم : أول جبار كان في الأرض نمروذ . فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام ، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار ، فإذا مر به ناس قال : من ربكم ؟ قالوا : أنت ! حتى مر إبراهيم ، قال : من ربك ؟ قال : الذي يحيي ويميت ؟ قال : أنا أحيي وأميت ! قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ! فبهت الذي كفر . قال : فرده بغير طعام . قال : فرجع إبراهيم على أهله .

فمر على كثيب أعفر ، فقال : ألا آخذ من هذا فآتي به [ ص: 434 ] أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم ! فأخذ منه فأتى أهله . قال : فوضع متاعه ثم نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ، ففتحته فإذا هي بأجود طعام رآه أحد ، فصنعت له منه ، فقربته إليه ، وكان عهد أهله ليس عندهم طعام ، فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به ! فعلم أن الله رزقه ، فحمد الله . ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك ! قال : وهل رب غيري ؟ ! فجاءه الثانية ، فقال له ذلك ، فأبى عليه . ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، فقال له الملك : اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ! فجمع الجبار جموعه ، فأمر الله الملك ، ففتح عليه بابا من البعوض ، فطلعت الشمس ، فلم يروها من كثرتها ، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم ، وشربت دماءهم ، فلم يبق إلا العظام ، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء . فبعث الله عليه بعوضة ، فدخلت في منخره ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه . وكان جبارا أربعمائة عام ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، وأماته الله . وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد ، وهو الذي قال الله : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) [ النحل : 26 ] .

5876 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " قال : هو نمروذ كان بالموصل والناس يأتونه ، فإذا دخلوا عليه ، قال : من ربكم ؟ فيقولون : أنت ! [ ص: 435 ] فيقول : أميروهم . فلما دخل إبراهيم ، ومعه بعير خرج يمتار به لولده . قال : فعرضهم كلهم ، فيقول : من ربكم ؟ فيقولون : أنت ! فيقول : أميروهم ! حتى عرض إبراهيم مرتين ، فقال : من ربك ! ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت ! قال : أنا أحيي وأميت ، إن شئت قتلتك فأمتك ، وإن شئت استحييتك . قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " . قال : أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا ! فخرج القوم كلهم قد امتاروا ، وجوالقا إبراهيم يصطفقان . حتى إذا نظر إلى سواد جبال أهله قال : ليحزني صبيتي إسماعيل وإسحاق ، لو أني ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء ، فذهبت بهما ، قرت عينا صبيتي ، حتى إذا كان الليل أهرقته ! قال : فملأهما ، ثم خيطهما ، ثم جاء بهما . فترامى عليهما الصبيان فرحا ، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة ، ثم قالت : ما يجلسني ! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا ، لو قمت فصنعت له طعاما إلى أن يقوم ! قال : فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها ، وانسلت قليلا قليلا لئلا توقظه . قال : فجاءت إلى إحدى الغرارتين ففتقتها ، فإذا حوارى من النقي لم يروا مثله عند أحد قط ، فأخذت منه فعجنته وخبزته ، فلما أتت توقظ إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه ، فقال : أي شيء هذا [ ص: 436 ] يا سارة ؟ قالت : من جوالقك ، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير قال : فذهب ينظر إلى الجوالق الآخر فإذا هو مثله ، فعرف من أين ذاك .

5877 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : لما قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت قال هو - يعني نمروذ : فأنا أحيي وأميت فدعا برجلين ، فاستحيا أحدهما ، وقتل الآخر ، قال : أنا أحيي وأميت قال : أي أستحيي من شئت . فقال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب " فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " .

5878 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما خرج إبراهيم من النار ، أدخلوه على الملك ، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه ، وقال له : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت قال نمروذ : أنا أحيي وأميت ! أنا أدخل أربعة نفر بيتا ، فلا يطعمون ولا يسقون ، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا ، وتركت اثنين فماتا . فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك ، قال له إبراهيم : فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب ! فبهت الذي كفر . وقال : إن هذا إنسان مجنون ! فأخرجوه ، ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها ، وأن النار لم تأكله ! وخشي أن يفتضح في قومه أعني نمروذ وهو قول الله - تعالى ذكره - : ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) [ سورة الأنعام : 83 ] ، فكان يزعم أنه رب وأمر بإبراهيم فأخرج .

5879 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : قال : أنا أحيي وأميت ، أحيي فلا أقتل ، وأميت من قتلت قال ابن جريج ، كان أتى [ ص: 437 ] برجلين ، فقتل أحدهما ، وترك الآخر ، فقال : أنا أحيي وأميت ، قال : أقتل فأميت من قتلت ، وأحيي قال : استحيي فلا أقتل .

5880 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : ذكر لنا - والله أعلم - أن نمروذ قال لإبراهيم فيما يقول : أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته ، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ، ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال نمروذ : فأنا أحيي وأميت ! فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ قال : آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي ، فأقتل أحدهما فأكون قد أمته ، وأعفو عن الآخر فأتركه وأكون قد أحييته ! فقال له إبراهيم عند ذلك : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب أعرف أنه كما تقول ، فبهت عند ذلك نمروذ ، ولم يرجع إليه شيئا ، وعرف أنه لا يطيق ذلك . يقول - تعالى ذكره - : " فبهت الذي كفر " يعني وقعت عليه الحجة يعني نمروذ .

قال أبو جعفر : وقوله : " والله لا يهدي القوم الظالمين " يقول : والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة ؛ لأن أهل الباطل حججهم داحضة .

وقد بينا أن معنى " الظلم " وضع الشيء في غير موضعه ، والكافر وضع جحوده ما جحد في غير موضعه ، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق . [ ص: 438 ]

5881 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق : " والله لا يهدي القوم الظالمين " أي : لا يهديهم في الحجة عند الخصومة لما هم عليه من الضلالة .

التالي السابق


الخدمات العلمية