صفحة جزء
[ ص: 481 ] القول في تأويل قوله ( فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ( 259 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : ( فلما تبين له ) فلما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك . ( قال : أعلم ) الآن بعد المعاينة والإيضاح والبيان . ( أن الله على كل شيء قدير ) .

ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله : ( قال أعلم أن الله ) .

فقرأه بعضهم : " قال اعلم " على معنى الأمر بوصل " الألف " من " اعلم " وجزم " الميم " منها . وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة . ويذكرون أنها في قراءة عبد الله : " قيل اعلم " على وجه الأمر من الله للذي أحيي بعد مماته ، فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته . وكذلك روي عن ابن عباس .

5954 - حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال : حدثنا القاسم بن سلام قال : حدثني حجاج ، عن هارون قال : هي في قراءة عبد الله : " قيل اعلم أن الله " على وجه الأمر . [ ص: 482 ]

5955 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه - أحسبه شك أبو جعفر الطبري - سمعت ابن عباس يقرأ : " فلما تبين له قال اعلم " قال : إنما قيل ذلك له .

5956 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذكر لنا - والله أعلم - أنه قيل له : " انظر " فجعل ينظر إلى العظام كيف يتواصل بعضها إلى بعض ، وذلك بعينيه ، فقيل : " اعلم أن الله على كل شيء قدير " .

قال أبو جعفر : فعلى هذا القول تأويل ذلك : فلما تبين من أمر الله وقدرته ، قال الله له : اعلم الآن أن الله على كل شيء قدير . ولو صرف متأول قوله : " قال اعلم " - وقد قرأه على وجه الأمر - إلى أنه من قبل المخبر عنه بما اقتص في هذه الآية من قصته كان وجها صحيحا ، وكان ذلك كما يقول القائل : " اعلم أن قد كان كذا وكذا " على وجه الأمر منه لغيره وهو يعني به نفسه .

وقرأ ذلك آخرون : ( قال أعلم ) على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به ، بهمز ألف " أعلم " وقطعها ، ورفع الميم ، بمعنى : فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه ، قال المتبين ذلك :

أعلم الآن أنا أن الله على كل شيء قدير .

وبذلك قرأ عامة قرأة أهل المدينة ، . وبعض قرأة أهل العراق . وبذلك من [ ص: 483 ] التأويل تأوله جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

5957 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه قال : لما عاين من قدرة الله ما عاين ، قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5958 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : ( فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5959 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : بعين نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يعني إنشاز العظام - فقال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5960 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قال عزير عند ذلك - يعني عند معاينة إحياء الله حماره - ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5961 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : جعل ينظر إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض ، ( فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5962 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، نحوه .

وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : " اعلم " بوصل [ ص: 484 ] " الألف " وجزم " الميم " على وجه الأمر من الله - تعالى ذكره - للذي قد أحياه بعد مماته ، بالأمر بأن يعلم أن الله - الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه من إحيائه إياه وحماره بعد موت مائة عام وبلائه حتى عادا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما ، وحفظه عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى رده عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير - على كل شيء قادر كذلك .

وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره ; لأن ما قبله من الكلام أمر من الله - تعالى ذكره - : قولا للذي أحياه الله بعد مماته ، وخطابا له به ، وذلك قوله : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) ، فلما تبين له ذلك جوابا عن مسألته ربه : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) قال الله له : " اعلم أن الله " الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت على غير ذلك من الأشياء قدير كقدرته على ما رأيت وأمثاله ، كما قال - تعالى ذكره - لخليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله : ( رب أرني كيف تحيي الموتى ) ( واعلم أن الله عزيز حكيم ) . فأمر إبراهيم بأن يعلم ، بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى ، أنه عزيز حكيم . فكذلك أمر الذي سأل فقال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) ؟ بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها أن يعلم أن الله على كل شيء قدير .

التالي السابق


الخدمات العلمية