صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( فيتبعون ما تشابه منه )

قال [ ص: 185 ] أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " فيتبعون ما تشابه " ما تشابهت ألفاظه وتصرفت معانيه بوجوه التأويلات ، ليحققوا بادعائهم الأباطيل من التأويلات في ذلك ما هم عليه من الضلالة والزيغ عن محجة الحق ، تلبيسا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه ، كما : -

6598 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس : " فيتبعون ما تشابه منه " فيحملون المحكم على المتشابه ، والمتشابه على المحكم ، ويلبسون ، فلبس الله عليهم .

6599 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فيتبعون ما تشابه منه " أي : ما تحرف منه وتصرف ، ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا ، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشبهة .

6600 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله : " فيتبعون ما تشابه منه " قال : الباب الذي ضلوا منه وهلكوا فيه ابتغاء تأويله .

وقال آخرون في ذلك بما : [ ص: 186 ]

6601 - حدثني به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي في قوله : " فيتبعون ما تشابه منه " يتبعون المنسوخ والناسخ فيقولون : ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مكان هذه الآية ، فتركت الأولى وعمل بهذه الأخرى ؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجيء الأولى التي نسخت ؟ وما باله يعد العذاب من عمل عملا يعذبه [ في ] النار ، وفي مكان آخر : من عمله فإنه لم يوجب النار ؟

واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية .

فقال بعضهم : عني به الوفد من نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحاجوه بما حاجوه به ، وخاصموه بأن قالوا : ألست تزعم أن عيسى روح الله وكلمته ؟ وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر .

ذكر من قال ذلك :

6602 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قال : عمدوا - يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نصارى نجران - فخاصموا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال : بلى ! قالوا : فحسبنا ! فأنزل الله - عز وجل - : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة " ثم [ ص: 187 ] إن الله - جل ثناؤه - : أنزل ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ) [ سورة آل عمران : 59 ] ، الآية .

وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب ، وأخيه حيي بن أخطب ، والنفر الذين ناظروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قدر مدة أكله وأكل أمته ، وأرادوا علم ذلك من قبل قوله : " الم و " المص " و " المر " و " الر " فقال الله - جل ثناؤه - فيهم : " فأما الذين في قلوبهم زيغ " - يعني هؤلاء اليهود الذين قلوبهم مائلة عن الهدى والحق " فيتبعون ما تشابه منه " يعني : معاني هذه الحروف المقطعة المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات " ابتغاء الفتنة " .

وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل في أول السورة التي تذكر فيها " البقرة " .

وقال آخرون : بل عنى الله - عز وجل - بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفة لما ابتعث به رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات ، وإن كان الله قد أحكم بيان ذلك ، إما في كتابه وإما على لسان رسوله .

ذكر من قال ذلك :

6603 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة " وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية : " فأما الذين في قلوبهم زيغ " قال : إن لم يكونوا الحرورية والسبائية ، فلا أدري من هم ! ولعمري لقد كان في أهل بدر [ ص: 188 ] والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان من المهاجرين والأنصار خبر لمن استخبر ، وعبرة لمن استعبر ، لمن كان يعقل أو يبصر . إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ كثير بالمدينة والشأم والعراق ، وأزواجه يومئذ أحياء . والله إن خرج منهم ذكر ولا أنثى حروريا قط ، ولا رضوا الذي هم عليه ، ولا مالئوهم فيه ، بل كانوا يحدثون بعيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياهم ونعته الذي نعتهم به ، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم ، ويعادونهم بألسنتهم ، وتشتد والله عليهم أيديهم إذا لقوهم . ولعمري لو كان أمر الخوارج هدى لاجتمع ، ولكنه كان ضلالا فتفرق . وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافا كثيرا . فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل . فهل أفلحوا فيه يوما أو أنجحوا ؟ يا سبحان الله ؟ كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأولهم ؟ لو كانوا على هدى ، قد أظهره الله وأفلجه ونصره ، ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه . فهم كما رأيتهم كلما خرج لهم قرن أدحض الله حجتهم ، وأكذب أحدوثتهم ، وأهراق دماءهم . إن كتموا كان قرحا في قلوبهم ، وغما عليهم . وإن أظهروه أهراق الله دماءهم . ذاكم والله دين سوء فاجتنبوه . والله [ ص: 189 ] إن اليهودية لبدعة ، وإن النصرانية لبدعة ، وإن الحرورية لبدعة ، وإن السبائية لبدعة ، ما نزل بهن كتاب ولا سنهن نبي .

6604 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " طلب القوم التأويل فأخطئوا التأويل وأصابوا الفتنة ، فاتبعوا ما تشابه منه ، فهلكوا من ذلك . لعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذي شهدوا بيعة الرضوان وذكر نحو حديث عبد الرزاق عن معمر ، عنه .

6605 - حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة قالت : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى قوله " وما يذكر إلا أولو الألباب " فقال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم . [ ص: 190 ]

6606 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة أنها قالت : قرأ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى " وما يذكر إلا أولو الألباب " قالت : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه - أو قال : يتجادلون فيه - فهم الذين عنى الله ، فاحذرهم قال مطر عن أيوب أنه قال : فلا تجالسوهم ، فهم الذين عنى الله فاحذروهم . [ ص: 191 ]

6607 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو معناه .

6608 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه .

6609 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرنا الحارث ، عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " الآية كلها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، والذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، أولئك الذين قال الله ، فلا تجالسوهم . [ ص: 192 ]

6610 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة عن يزيد بن إبراهيم عن ابن أبي مليكة قال : سمعت القاسم بن محمد يحدث عن عائشة قالت : تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " ثم قرأ إلى آخر الآيات ، فقال : " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمى الله ، فاحذروهم .

6611 - حدثنا علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم عن حماد بن سلمة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : نزع رسول الله [ ص: 193 ] - صلى الله عليه وسلم - : " يتبعون ما تشابه منه " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد حذركم الله ، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم .

6612 - حدثنا علي قال : حدثنا الوليد عن نافع بن عمر عن [ ابن أبي مليكة ، حدثتني ] عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيتموهم فاحذروهم ، ثم نزع : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " ولا يعملون بمحكمه . [ ص: 194 ]

6613 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال أخبرنا عمي قال أخبرني شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن هذه الآية : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " فقال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم .

6614 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا خالد بن نزار عن نافع عن ابن أبي مليكة عن عائشة في هذه الآية " هو الذي أنزل عليك الكتاب " الآية " يتبعها " يتلوها ، ثم يقول : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فاحذروهم ، فهم الذين عنى الله . [ ص: 195 ]

6615 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " إلى آخر الآية ، قال : هم الذين سماهم الله ، فإذا أريتموهم فاحذروهم .

قال أبو جعفر : والذي يدل عليه ظاهر هذه الآية ، أنها نزلت في الذين جادلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمتشابه ما أنزل إليه من كتاب الله ، إما [ ص: 196 ] في أمر عيسى ، وإما في مدة أكله وأكل أمته .

وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمتشابهه في مدته ومدة أمته أشبه ، لأن قوله : " وما يعلم تأويله إلا الله " دال على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قبل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله . فأما أمر عيسى وأسبابه ، فقد أعلم الله ذلك نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأمته ، وبينه لهم . فمعلوم أنه لم يعن به إلا ما كان خفيا عن الآجال .

التالي السابق


الخدمات العلمية