صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وكفلها زكريا )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة قوله : " وكفلها "

فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة : " وكفلها " مخففة " الفاء " ، بمعنى : ضمها زكريا إليه ، اعتبارا بقول الله - عز وجل - : ( يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ) [ سورة آل عمران : 44 ] .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين . ( وكفلها زكريا ) ، بمعنى : وكفلها الله زكريا .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ : ( وكفلها ) مشددة " الفاء " بمعنى : وكفلها الله زكريا ، بمعنى : وضمها الله إليه ؛ لأن زكريا أيضا ضمها إليه بإيجاب الله له ضمها إليه بالقرعة التي أخرجها الله له ، والآية التي أظهرها لخصومه فيها ، فجعله بها أولى منهم ، إذ قرع فيها من شاحه فيها . [ ص: 346 ] وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومه في مريم إذا تنازعوا فيها أيهم تكون عنده ، تساهموا بقداحهم ، فرموا بها في نهر الأردن . فقال بعض أهل العلم : ارتز قدح زكريا ، فقام ولم يجر به الماء ، وجرى بقداح الآخرين الماء . فجعل الله ذلك لزكريا علما أنه أحق المتنازعين فيها بها .

وقال آخرون : بل اصاعد قدح زكريا في النهر ، وانحدرت قداح الآخرين مع جرية الماء وذهبت ، فكان ذلك له علما من الله في أنه أولى القوم بها .

قال أبو جعفر : وأي الأمرين كان من ذلك فلا شك أن ذلك كان قضاء من الله بها لزكريا على خصومه بأنه أولاهم بها ، وإذا كان ذلك كذلك ، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضم الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تشاحهم فيها ، واختصامهم في أولاهم بها . [ ص: 347 ]

وإذ كان ذلك كذلك ; كان بينا أن أولى القراءتين بالصواب ما اخترنا من تشديد " كفلها " .

وأما ما اعتل به القارئون ذلك بتخفيف " الفاء " من قول الله : ( أيهم يكفل مريم ) ، وأن ذلك موجب صحة اختيارهم التخفيف في قوله : " وكفلها " فحجة دالة على ضعف احتيال المحتج بها .

ذلك أنه غير ممتنع ذو عقل من أن يقول قائل : " كفل فلان فلانا فكفله فلان " . فكذلك القول في ذلك : ألقى القوم أقلامهم : أيهم يكفل مريم ، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الأقلام .

قال أبو جعفر : وكذلك اختلفت القرأة في قراءة " زكريا " .

فقرأته عامة قرأة المدينة بالمد .

وقرأته عامة قرأة الكوفة بالقصر .

وهما لغتان معروفتان ، وقراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين ، وليس في القراءة بإحداهما خلاف لمعنى القراءة الأخرى ، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب .

غير أن الصواب عندنا - إذا مد " زكريا " أن ينصب بغير تنوين ؛ لأنه اسم من أسماء العجم لا يجرى ، ولأن قراءتنا في " كفلها " بالتشديد ، وتثقيل " الفاء " . ف " زكرياء " منصوب بالفعل الواقع عليه . [ ص: 348 ]

وفي " زكريا " لغة ثالثة لا تجوز القراءة بها ؛ لخلافها مصاحف المسلمين ، وهو " زكري " بحذف المدة و " الياء " الساكنة ، تشبهه العرب بالمنسوب من الأسماء ، فتنونه وتجريه في أنواع الإعراب مجاري " ياء " النسبة .

قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : وضمها الله إلى زكريا ، من قول الشاعر :


فهو لضلال الهوام كافل



يراد به : لما ضل من متفرق النعم ومنتشره ضام إلى نفسه وجامع . وقد روي :


فهو لضلال الهوافي كافل



بمعنى أنه لما ند فهرب من النعم ضام من قولهم : " هفا الظليم " إذا أسرع الطيران .

يقال منه للرجل : " ما لك تكفل كل ضالة " ؟ يعني به : تضمها إليك وتأخذها .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6902 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال حدثنا محمد بن ربيعة ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة في قوله : ( إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت ) قال : ألقوا أقلامهم فجرت بها الجرية ، إلا قلم زكريا اصاعد ، فكفلها زكريا .

6903 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وكفلها زكريا " قال : ضمها إليه . قال : ألقوا أقلامهم - يقول : عصيهم - قال : فألقوها تلقاء جرية الماء ، فاستقبلت عصا زكريا جرية الماء ، فقرعهم .

6904 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال الله - عز وجل - : " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا " فانطلقت بها أمها في خرقها - يعني أم مريم بمريم - حين ولدتها إلى المحراب وقال بعضهم : انطلقت حين بلغت إلى المحراب وكان الذين يكتبون التوراة إذا جاءوا إليهم بإنسان يجربونه ، اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه . وكان زكريا أفضلهم يومئذ ، وكان بينهم ، وكانت خالة مريم تحته . فلما أتوا بها اقترعوا [ ص: 350 ] عليها ، وقال لهم زكريا : أنا أحقكم بها ، تحتي أختها . فأبوا ، فخرجوا إلى نهر الأردن ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها : أيهم يقوم قلمه فيكفلها . فجرت الأقلام ، وقام قلم زكريا على قرنته كأنه في طين ، فأخذ الجارية . وذلك قول الله - عز وجل - : " وكفلها زكريا " فجعلها زكريا معه في بيته ، وهو المحراب .

6905 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وكفلها زكريا " يقول : ضمها إليه .

6906 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وكفلها زكريا " قال : سهمهم بقلمه .

6907 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .

6908 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال : كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم . قال : فتشاح عليها أحبارهم ، فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها . قال قتادة : وكان زكريا زوج أختها ، فكفلها ، وكانت عنده وحضنها . [ ص: 351 ]

6909 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة : أنه أخبره ، عن عكرمة وأبي بكر ، عن عكرمة قال : ثم خرجت بها يعني : أم مريم بمريم في خرقها تحملها إلى بني الكاهن بن هارون ، أخي موسى بن عمران . قال : وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ، فإني حررتها ، وهي ابنتي ، ولا يدخل الكنيسة حائض ، وأنا لا أردها إلى بيتي . فقالوا : هذه ابنة إمامنا - وكان عمران يؤمهم في الصلاة - وصاحب قرباننا . فقال زكريا : ادفعوها إلي ، فإن خالتها عندي . قالوا : لا تطيب أنفسنا ، هي ابنة إمامنا . فذلك حين اقترعوا ، فاقترعوا بأقلامهم عليها - بالأقلام التي يكتبون بها التوراة - فقرعهم زكريا ، فكفلها .

6910 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جعلها زكريا معه في محرابه ، قال الله - عز وجل - : " وكفلها زكريا " قال حجاج قال : ابن جريج : " الكاهن " في كلامهم : العالم .

6911 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وكفلها زكريا " بعد أبيها وأمها ، يذكرها باليتم ، ثم قص خبرها وخبر زكريا .

6912 - حدثنا المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن [ ص: 352 ] عطاء ، عن سعيد بن جبير قوله : " وكفلها زكريا " قال : كانت عنده .

6913 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير قوله : " وكفلها زكريا " قال : جعلها زكريا معه في محرابه .

6914 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا " وتقارعها القوم ، فقرع زكريا ، فكفلها زكريا .

وقال آخرون : بل كان زكريا بعد ولادة حنة ابنتها مريم ، كفلها بغير اقتراع ولا استهام عليها ، ولا منازعة أحد إياه فيها . وإنما كفلها ؛ لأن أمها ماتت بعد موت أبيها وهي طفلة ، وعند زكريا خالتها ألاشباع ابنة فاقوذ وقد قيل : إن اسم أم يحيى خالة عيسى : إشبع .

6915 - حدثنا بذلك القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبأي : أن اسم أم يحيى أشبع . [ ص: 353 ]

فضمها إلى خالتها أم يحيى ، فكانت إليهم ومعهم ، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذر أمها التي نذرت فيها .

قالوا : والاقتراع فيها بالأقلام ، إنما كان بعد ذلك بمدة طويلة لشدة أصابتهم ، ضعف زكريا عن حمل مئونتها ، فتدافعوا حمل مئونتها ، لا رغبة منهم ، ولا تنافسا عليها وعلى احتمال مئونتها . وسنذكر قصتها على قول من قال ذلك ، إذا بلغنا إليها إن شاء الله تعالى .

6916 - حدثنا بذلك ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق .

فعلى هذا التأويل تصح قراءة من قرأ : " وكفلها زكريا " بتخفيف " الفاء " لو صح التأويل . غير أن القول متظاهر من أهل التأويل بالقول الأول : أن استهام القوم فيها كان قبل كفالة زكريا إياها ، وأن زكريا إنما كفلها بإخراج سهمه منها فالجا على سهام خصومه فيها . فلذلك كانت قراءته بالتشديد عندنا أولى من قراءته بالتخفيف .

التالي السابق


الخدمات العلمية