صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى )

قال أبو جعفر : وتأويل قوله : " وهو قائم : " فنادته الملائكة في حال قيامه مصليا . فقوله : " وهو قائم " خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا .

وقوله : " يصلي " في موضع نصب على الحال من " القيام " وهو رفع بالياء .

وأما " المحراب " فقد بينا معناه ، وأنه مقدم المسجد .

واختلفت القرأة في قراءة قوله : " أن الله يبشرك " .

فقرأته عامة القرأة : ( أن الله ) بفتح " الألف " من " أن " بوقوع " النداء " عليها ، بمعنى : فنادته الملائكة بذلك .

وقرأه بعض قرأة أهل الكوفة : ( إن الله يبشرك ) بكسر " الألف " بمعنى : قالت الملائكة : إن الله يبشرك ، لأن النداء قول . وذكروا أنها في قراءة عبد الله : ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب يا زكريا إن الله يبشرك ) قالوا : وإذا بطل النداء أن يكون عاملا في قوله : " يا زكريا " فباطل أيضا [ ص: 367 ] أن يكون عاملا في " إن " .

والصواب من القراءة في ذلك عندنا : " أن الله يبشرك " بفتح " أن " بوقوع النداء عليه ، بمعنى : فنادته الملائكة بذلك .

وليست العلة التي اعتل بها القارئون بكسر " إن " من أن عبد الله كان يقرؤها كذلك ، فقرأوها كذلك [ لهم بعلة ] وذلك أن عبد الله إن كان قرأ ذلك كذلك ، فإنما قرأها بزعمهم ، وقد اعترض بنداء زكريا بين " إن " وبين قوله : " فنادته " وإذا اعترض به بينهما ، فإن العرب تعمل حينئذ النداء في " أن " وتبطله عنها . أما الإبطال ، فلأنه بطل عن العمل في المنادى قبله ، فأسلكوا الذي بعده مسلكه في بطول عمله . وأما الإعمال ، فلأن النداء فعل واقع . كسائر الأفعال .

وأما قراءتنا ، فليس نداء زكريا ب " يا زكريا " معترضا به بين " أن " وبين قوله : " فنادته " . وإذا لم يكن ذلك بينهما ، فالكلام الفصيح من كلام العرب إذا نصبت بقول : " ناديت " اسم المنادى وأوقعوه عليه ، أن يوقعوه كذلك على " أن " بعده . وإن كان جائزا إبطال عمله ، فقوله : " نادته " قد وقع على مكني " زكريا " فكذلك الصواب أن يكون واقعا على " أن " وعاملا فيها . [ ص: 368 ]

مع أن ذلك هو القراءة المستفيضة في قراءة أمصار الإسلام . ولا يعترض بالشاذ على الجماعة التي تجيء مجيء الحجة .

وأما قوله : " يبشرك " فإن القرأة اختلفت في قراءته .

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والبصرة : ( أن الله يبشرك ) بتشديد " الشين " وضم " الياء " على وجه تبشير الله زكريا بالولد ، من قول الناس : " بشرت فلانا البشراء بكذا وكذا " أي : أتته بشارات البشراء بذلك .

وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفة وغيرهم : ( أن الله يبشرك ) ، بفتح " الياء " وضم " الشين " وتخفيفها ، بمعنى : أن الله يسرك بولد يهبه لك ، من قول الشاعر :


بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة أتتك من الحجاج يتلى كتابها



وقد قيل : إن " بشرت " لغة أهل تهامة من كنانة وغيرهم من قريش ، وأنهم يقولون : " بشرت فلانا بكذا ، فأنا أبشره بشرا " و " هل أنت باشر بكذا " ؟ وينشد لهم البيت في ذلك :


وإذا رأيت الباهشين إلى العلى     غبرا أكفهم بقاع ممحل
[ ص: 369 ]

فأعنهم ، وابشر بما بشروا به ،     وإذا هم نزلوا بضنك فانزل


فإذا صاروا إلى الأمر ، فالكلام الصحيح من كلامهم بلا ألف فيقال : " ابشر فلانا بكذا " ولا يكادون يقولون : " بشره بكذا ، ولا أبشره " .

وقد روي عن حميد بن قيس أنه كان يقرأ : ( يبشرك ) ، بضم " الياء " وكسر " الشين " وتخفيفها . وقد : -

6947 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن معاذ الكوفي قال : من قرأ : ( يبشرهم ) مثقلة ، فإنه من البشارة ، ومن قرأ : ( يبشرهم ) ، مخففة ، بنصب " الياء " فإنه من السرور ، يسرهم .

قال أبو جعفر : والقراءة التي هي القراءة عندنا في ذلك ، ضم " الياء " وتشديد " الشين " بمعنى التبشير . لأن ذلك هي اللغة السائرة والكلام المستفيض المعروف في الناس ، مع أن جميع قرأة الأمصار مجمعون في قراءة : ( فبم تبشرون ) [ سورة الحجر : 54 ] ، على التشديد . والصواب في سائر ما في القرآن من نظائره ، أن يكون مثله في التشديد وضم " الياء " . [ ص: 370 ]

وأما ما روي عن معاذ الكوفي من الفرق بين معنى التخفيف والتشديد في ذلك ، فلم نجد أهل العلم بكلام العرب يعرفونه من وجه صحيح ، فلا معنى لما حكي من ذلك عنه ، وقد قال جرير بن عطية :


يا بشر حق لوجهك التبشير     هلا غضبت لنا ؟ وأنت أمير !



فقد علم أنه أراد بقوله " التبشير " الجمال والنضارة والسرور ، فقال " التبشير " ولم يقل " البشر " فقد بين ذلك أن معنى التخفيف والتثقيل في ذلك واحد .

6948 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : " إن الله يبشرك بيحيى " قال : بشرته الملائكة بذلك .

وأما قوله : " بيحيى " فإنه اسم ، أصله " يفعل " من قول القائل : " حيي فلان فهو يحيى " وذلك إذا عاش . " فيحيى " " يفعل " من قولهم " حيي " .

وقيل : إن الله - جل ثناؤه - سماه بذلك ، لأنه يتأول اسمه : أحياه بالإيمان .

ذكر من قال ذلك :

6949 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " أن الله يبشرك بيحيى ، يقول : عبد أحياه الله بالإيمان .

6950 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي [ ص: 371 ] جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة قوله : " إن الله يبشرك بيحيى " ، قال : إنما سمي يحيى ، لأن الله أحياه بالإيمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية