صفحة جزء
القول في تأويل قوله : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) [ ص: 399 ]

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها .

فقال بعضهم بما :

554 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " وقوله : " أو كصيب من السماء " الآيات الثلاث - قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله : " إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة " إلى قوله : " أولئك هم الخاسرون "

وقال آخرون بما :

555 - حدثني به أحمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا قراد ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، في قوله تعالى : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " قال : هذا مثل ضربه الله للدنيا ، إن البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا سمنت ماتت . وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن : إذا امتلأوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك . قال : ثم تلا ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) [ سورة الأنعام : 44 ] .

556 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس بنحوه ، إلا أنه قال : فإذا خلت آجالهم وانقطعت مدتهم ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت ، وتموت إذا رويت ، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل ، إذا امتلئوا من الدنيا ريا أخذهم الله فأهلكهم . فذلك قوله : ( حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) [ سورة الأنعام : 44 ] .

وقال آخرون بما :

557 - حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر منه شيئا ما قل منه أو كثر . إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله : [ ص: 400 ] " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها "

558 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لما ذكر الله العنكبوت والذباب ، قال المشركون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها "

وقد ذهب كل قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية ، وفي المعنى الذي نزلت فيه ، مذهبا ، غير أن أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحق ، ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس .

وذلك أن الله جل ذكره أخبر عباده أنه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، عقيب أمثال قد تقدمت في هذه السورة ، ضربها للمنافقين ، دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها . فلأن يكون هذا القول - أعني قوله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما " - جوابا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال في هذه السورة ، أحق وأولى من أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور .

فإن قال قائل : إنما أوجب أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب من الأمثال في سائر السور ، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور أمثال موافقة المعنى لما أخبر عنه : أنه لا يستحيي أن يضربه مثلا إذ كان بعضها تمثيلا لآلهتهم بالعنكبوت ، وبعضها تشبيها لها في الضعف والمهانة بالذباب . وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة ، فيجوز أن يقال : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا . [ ص: 401 ]

فإن ذلك بخلاف ما ظن . وذلك أن قول الله جل ثناؤه : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " إنما هو خبر منه جل ذكره أنه لا يستحيي أن يضرب في الحق من الأمثال صغيرها وكبيرها ، ابتلاء بذلك عباده واختبارا منه لهم ، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به ، إضلالا منه به لقوم ، وهداية منه به لآخرين .

559 - كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " مثلا ما بعوضة " يعني الأمثال صغيرها وكبيرها ، يؤمن بها المؤمنون ، ويعلمون أنها الحق من ربهم ، ويهديهم الله بها ويضل بها الفاسقين . يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .

560 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله .

561 - حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج عن مجاهد ، مثله .

قال أبو جعفر : لا أنه جل ذكره قصد الخبر عن عين البعوضة أنه لا يستحيي من ضرب المثل بها ، ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق -

562 - كما حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : البعوضة أضعف ما خلق الله .

563 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، بنحوه . [ ص: 402 ]

- خصها الله بالذكر في القلة ، فأخبر أنه لا يستحيي أن يضرب أقل الأمثال في الحق وأحقرها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع ، جوابا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرب لهم من المثل بموقد النار والصيب من السماء ، على ما نعتهما به من نعتهما .

فإن قال لنا قائل : وأين ذكر نكير المنافقين الأمثال التي وصفت ، الذي هذا الخبر جوابه ، فنعلم أن القول في ذلك ما قلت ؟

قيل : الدلالة على ذلك بينة في قول الله تعالى ذكره " : فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا " وإن القوم الذين ضرب لهم الأمثال في الآيتين المقدمتين - اللتين مثل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما بموقد النار وبالصيب من السماء ، على ما وصف من ذلك قبل قوله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " - قد أنكروا المثل وقالوا : ماذا أراد الله بهذا مثلا فأوضح لهم تعالى ذكره خطأ قيلهم ذلك ، وقبح لهم ما نطقوا به ، وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه ، وأنه ضلال وفسوق ، وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه .

وأما تأويل قوله : " إن الله لا يستحيي " فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى " إن الله لا يستحيي " : إن الله لا يخشى أن يضرب مثلا ويستشهد على ذلك من قوله بقول الله تعالى : ( وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) [ سورة الأحزاب : 37 ] ، ويزعم أن معنى ذلك : وتستحي الناس والله أحق أن تستحيه ، فيقول : الاستحياء بمعنى الخشية ، والخشية بمعنى الاستحياء . [ ص: 403 ]

وأما معنى قوله : " أن يضرب مثلا " فهو أن يبين ويصف ، كما قال جل ثناؤه : ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم ) [ سورة الروم : 28 ] ، بمعنى وصف لكم ، وكما قال الكميت :


وذلك ضرب أخماس أريدت لأسداس عسى أن لا تكونا



بمعنى : وصف أخماس .

والمثل : الشبه ، يقال : هذا مثل هذا ومثله ، كما يقال : شبهه وشبهه ، ومنه قول كعب بن زهير :


كانت مواعيد عرقوب لها مثلا     وما مواعيدها إلا الأباطيل


يعني شبها ، فمعنى قوله إذا : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " إن [ ص: 404 ] الله لا يخشى أن يصف شبها لما شبه به .

وأما " ما " التي مع " مثل " فإنها بمعنى " الذي " لأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة في الصغر والقلة فما فوقها - مثلا .

فإن قال لنا قائل : فإن كان القول في ذلك ما قلت ، فما وجه نصب البعوضة ، وقد علمت أن تأويل الكلام على ما تأولت : أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا الذي هو بعوضة ، فالبعوضة على قولك في محل الرفع ؟ فأنى أتاها النصب ؟

قيل : أتاها النصب من وجهين : أحدهما ، أن " ما " لما كانت في محل نصب بقوله " يضرب " وكانت البعوضة لها صلة ، عربت بتعريبها فألزمت إعرابها ، كما قال حسان بن ثابت :


وكفى بنا فضلا على من غيرنا     حب النبي محمد إيانا


فعربت " غير " بإعراب " من " والعرب تفعل ذلك خاصة في " من " و " ما " تعرب صلاتهما بإعرابهما ، لأنهما يكونان معرفة أحيانا ، ونكرة أحيانا . [ ص: 405 ]

وأما الوجه الآخر ، فأن يكون معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها ، ثم حذف ذكر " بين " و " إلى " إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في " ما " الثانية ، دلالة عليهما ، كما قالت العرب : " مطرنا ما زبالة فالثعلبية " و " له عشرون ما ناقة فجملا " و " هي أحسن الناس ما قرنا فقدما " يعنون : ما بين قرنها إلى قدمها . وكذلك يقولون في كل ما حسن فيه من الكلام دخول : " ما بين كذا إلى كذا " ينصبون الأول والثاني ، ليدل النصب فيهما على المحذوف من الكلام . فكذلك ذلك في قوله : " ما بعوضة فما فوقها "

وقد زعم بعض أهل العربية أن " ما " التي مع المثل صلة في الكلام بمعنى التطول وأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا فما فوقها . فعلى هذا التأويل ، يجب أن تكون " بعوضة " منصوبة ب " يضرب " وأن تكون " ما " الثانية التي في " فما فوقها " معطوفة على البعوضة لا على " ما "

وأما تأويل قوله " فما فوقها " : فما هو أعظم منها - عندي - لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جريج : أن البعوضة أضعف خلق الله ، فإذ كانت أضعف خلق الله فهي نهاية في القلة والضعف . وإذ كانت كذلك ، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء لا يكون إلا أقوى منه ، فقد يجب أن يكون المعنى [ ص: 406 ] - على ما قالاه - فما فوقها في العظم والكبر ، إذ كانت البعوضة نهاية في الضعف والقلة .

وقيل في تأويل قوله " فما فوقها " في الصغر والقلة ، كما يقال في الرجل يذكره الذاكر فيصفه باللؤم والشح ، فيقول السامع : " نعم ، وفوق ذاك " يعني فوق الذي وصف في الشح واللؤم ، وهذا قول خلاف تأويل أهل العلم الذين ترتضى معرفتهم بتأويل القرآن .

فقد تبين إذا ، بما وصفنا ، أن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يصف شبها لما شبه به الذي هو ما بين بعوضة إلى ما فوق البعوضة .

فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة ، فغير جائز في " ما " إلا ما قلنا من أن تكون اسما لا صلة بمعنى التطول .

التالي السابق


الخدمات العلمية