1. الرئيسية
  2. تفسير البغوي
  3. سورة يوسف
  4. تفسير قوله تعالى " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين "
صفحة جزء
( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ( 24 ) .

( ولقد همت به وهم بها ) والهم هو : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه . فهمها : عزمها على المعصية والزنا .

وأما همه : فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن .

وعن مجاهد قال : حل سراويله وجعل يعالج ثيابه . وهذا قول أكثر المتقدمين مثل سعيد بن جبير ، والحسن .

وقال الضحاك : جرى الشيطان فيما بينهما فضرب بإحدى يديه إلى جيد يوسف وباليد الأخرى إلى جيد المرأة حتى جمع بينهما .

قال أبو عبيد القاسم بن سلام : وقد أنكر قوم هذا القول ، والقول ما قال متقدمو هذه الأمة ، وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء عليهم السلام من غير علم .

وقال السدي وابن إسحاق : لما أرادت امرأة العزيز مراودة يوسف عليه السلام عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه ، وتشوقه إلى نفسها ، فقالت : يا يوسف ، ما أحسن شعرك ! .

قال : هو أول ما ينتثر من جسدي .

قالت : ما أحسن عينيك ! [ ص: 229 ]

قال : هي أول ما تسيل على وجهي في قبري .

قالت : ما أحسن وجهك !

قال : هو للتراب يأكله .

وقيل : إنها قالت : إن فراش الحرير مبسوط ، فقم فاقض حاجتي .

قال : إذا يذهب نصيبي من الجنة .

فلم تزل تطمعه وتدعوه إلى اللذة ، وهو شاب يجد من شبق الشباب ما يجده الرجل ، وهي امرأة حسناء جميلة ، حتى لان لها مما يرى من كلفها ، وهم بها ، ثم إن الله تعالى تدارك عبده ونبيه بالبرهان الذي ذكره .

وزعم بعض المتأخرين : أن هذا لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام ، وقال : تم الكلام عند قوله : ( ولقد همت به ) ثم ابتدأ الخبر عن يوسف عليه السلام فقال : ( وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) على التقديم والتأخير ، أي : لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، ولكنه رأى البرهان فلم يهم .

وأنكره النحاة وقالوا : إن العرب لا تؤخر ( لولا ) عن الفعل ، فلا تقول : لقد قمت لولا زيد ، [ وهو يريد لولا زيد لقمت ] .

وقيل : همت بيوسف أن يفترشها ، وهم بها يوسف أي : تمنى أن تكون له زوجة . [ ص: 230 ] وهذا التأويل وأمثاله غير مرضية لمخالفتها أقاويل القدماء من العلماء الذين يؤخذ عنهم الدين والعلم .

وقال بعضهم : إن القدر الذي فعله يوسف عليه السلام كان من الصغائر والصغائر تجوز على الأنبياء عليهم السلام . [ ص: 231 ]

روي أن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك حين خرج من السجن وأقرت المرأة ، قال يوسف : ( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ) قال له جبريل : ولا حين هممت بها يا يوسف ؟ فقال يوسف عند ذلك : ( وما أبرئ نفسي ) الآية .

وقال الحسن البصري : إن الله تعالى لم يذكر ذنوب الأنبياء عليهم السلام في القرآن ليعيرهم ، ولكن ذكرها ليبين موضع النعمة عليهم ، ولئلا ييئس أحد من رحمته .

وقيل : إنه ابتلاهم بالذنوب ليتفرد بالطهارة والعزة ، ويلقاه جميع الخلق يوم القيامة على انكسار المعصية .

وقيل : ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة وترك الإياس من المغفرة والعفو .

وقال بعض أهل الحقائق : الهم همان : هم ثابت ، وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضا ، مثل هم امرأة العزيز ، والعبد مأخوذ به ، وهم عارض وهو الخطرة ، وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم ، مثل هم يوسف عليه السلام ، فالعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل .

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال : حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل : إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها ، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها [ ص: 232 ] وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ، ما لم يعملها ، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها " .

قوله عز وجل : ( لولا أن رأى برهان ربه ) اختلفوا في ذلك البرهان : قال قتادة وأكثر المفسرين : إنه رأى صورة يعقوب وهو يقول له : يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء ! .

وقال الحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك : انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عليه السلام عاضا على أصبعه .

وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : مثل له يعقوب عليه السلام فضرب بيده في صدره ، فخرجت شهوته من أنامله .

وقال السدي : نودي يا يوسف ، تواقعها ! إنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جوف السماء لا يطاق ، ومثلك إن تواقعها مثله إذا مات ووقع على الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يطاق ، ومثلك إن واقعتها مثل الثور يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفعه عن نفسه .

وعن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : ( وهم بها ) قال : حل سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته ، فإذا بكف قد بدت بينهما بلا معصم ولا عضد مكتوب عليها ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ) ( الانفطار - 11 ) ، فقام هاربا وقامت ، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد فظهرت تلك الكف مكتوبا عليها : ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) ( الإسراء - 32 ) فقام هاربا وقامت ، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد ، فظهر ، ورأى تلك الكف مكتوبا عليها : ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) ( البقرة - 281 ) فقام هاربا وقامت ، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد ، فقال الله عز وجل لجبريل عليه السلام : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحط جبريل عليه السلام عاضا على أصبعه ، يقول : يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء .

وروي أنه مسحه بجناحه فخرجت شهوته من أنامله . [ ص: 233 ]

وقال محمد بن كعب القرظي : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت حين هم بها فرأى كتابا في حائط البيت : " لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا " .

وروى عطية ، عن ابن عباس : في البرهان أنه رأى مثال الملك .

وقال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما : البرهان النبوة التي أودعها الله في صدره حالت بينه وبين ما يسخط الله عز وجل .

وعن علي بن الحسين قال : كان في البيت صنم فقامت المرأة وسترته بثوب ، فقال لها يوسف : لم فعلت هذا ؟ .

فقالت : استحييت منه أن يراني على المعصية .

فقال يوسف : أتستحين مما لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه ؟ فأنا أحق أن أستحي من ربي ، وهرب . [ ص: 234 ]

قوله عز وجل : ( لولا أن رأى برهان ربه ) جواب لولا محذوف ، تقديره : لولا أن رأى برهان ربه لواقع المعصية .

( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ) فالسوء : الإثم . وقيل : السوء القبيح . والفحشاء : الزنا .

( إنه من عبادنا المخلصين ) قرأ أهل المدينة ، والكوفة : ( المخلصين ) بفتح اللام حيث كان إذا لم يكن بعده ذكر الدين ، زاد الكوفيون " مخلصا " في سورة مريم ففتحوا .

ومعنى ( المخلصين ) المختارين للنبوة ، دليله : ( إنا أخلصناهم بخالصة ) ( ص - 146 ) .

وقرأ الآخرون بكسر اللام ، أي : المخلصين لله الطاعة والعبادة .

التالي السابق


الخدمات العلمية