صفحة جزء
باب العين حق

5408 حدثنا إسحاق بن نصر حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال العين حق ونهى عن الوشم
قوله : ( باب العين حق ) أي الإصابة بالعين شيء ثابت موجود ، أو هو من جملة ما تحقق كونه . قال المازري : أخذ الجمهور بظاهر الحديث ، وأنكره طوائف المبتدعة لغير معنى ، لأن كل شيء ليس محالا في [ ص: 214 ] نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل ، فهو من متجاوزات العقول ، فإذا أخبر الشرع بوقوعه لم يكن لإنكاره معنى ، وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به من أمورالأخرة .

قوله : ( العين حق ، ونهى عن الوشم ) لم تظهر المناسبة بين هاتين الجملتين ، فكأنهما حديثان مستقلان ، ولهذا حذف مسلم وأبو داود الجملة الثانية من روايتهما مع أنهما أخرجاه من رواية عبد الرزاق الذي أخرجه البخاري من جهته ، ويحتمل أن يقال : المناسبة بينهما اشتراكهما في أن كلا منهما يحدث في العضو لونا غير لونه الأصلي ، والوشم بفتح الواو وسكون المعجمة أن يغرز إبرة أو نحوها في موضع من البدن حتى يسيل الدم ثم يحشى ذلك الموضع بالكحل أو نحوه فيخضر ، وسيأتي بيان حكمه في " باب المستوشمة " من أواخر كتاب اللباس إن شاء الله - تعالى - . وقد ظهرت لي مناسبة بين هاتين الجملتين لم أر من سبق إليها ، وهي أن من جملة الباعث على عمل الوشم تغير صفة الموشوم لئلا تصيبه العين ، فنهى عن الوشم مع إثبات العين ، وأن التحيل بالوشم وغيره مما لا يستند إلى تعليم الشارع لا يفيد شيئا ، وأن الذي قدره الله سيقع وأخرج مسلم من حديث ابن عباس رفعه " العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا " فأما الزيادة الأولى ففيها تأكيد وتنبيه على سرعة نفوذها وتأثيره في الذات ، وفيها إشارة إلى الرد على من زعم من المتصوفة أن قوله : " العين حق " يريد به القدر أي العين التي تجري منها الأحكام ، فإن عين الشيء حقيقته ، والمعنى أن الذي يصيب من الضرر بالعادة عند نظر الناظر إنما هو بقدر الله السابق لا بشيء يحدثه الناظر في المنظور . ووجه الرد أن الحديث ظاهر في المغايرة بين القدر وبين العين ، وإن كنا نعتقد أن العين من جملة المقدور ، لكن ظاهره إثبات العين التي تصيب إما بما جعل الله - تعالى - فيها من ذلك وأودعه فيها ، وإما بإجراء العادة بحدوث الضرر عند تحديد النظر ، وإنما جرى الحديث مجرى المبالغة في إثبات العين لا أنه يمكن أن يرد القدر شيء إذ القدر عبارة عن سابق علم الله ، وهو لا راد لأمره ، أشار إلى ذلك القرطبي . وحاصله لو فرض أن شيئا له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين . لكنها لا تسبق ، فكيف غيرها ؟ وقد أخرجالبزار من حديث جابر بسند حسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالأنفس " قال الراوي : يعني بالعين . وقال النووي : في الحديث إثبات القدر وصحة أمر العين وأنها قوية الضرر ، وأما الزيادة الثانية وهي أمر العاين بالاغتسال عند طلب المعيون منه ذلك ففيها إشارة إلى أن الاغتسال لذلك كان معلوما بينهم ، فأمرهم إن لا يمتنعوا منه إذا أريد منهم ، وأدنى ما في ذلك رفع الوهم الحاصل في ذلك ، وظاهر الأمر الوجوب . وحكى المازري فيه خلافا وصحح الوجوب وقال : متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به فإنه يتعين ، وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر وهذا أولى ، ولم يبين في حديث ابن عباس صفة الاغتسال ، وقد وقعت في حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف " أن أباه حدثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج وساروا معه نحو ماء ، حتى إذا كانوا بشعب الخزار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف - وكان أبيض حسن الجسم والجلد - فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال : ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة ، فلبط - أي صرع وزنا ومعنى - سهل . فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هل تتهمون به من أحد ؟ قالوا . عامر بن ربيعة . فدعا عامرا فتغيظ عليه فقال : علام يقتل أحدكم أخاه ؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت . ثم قال : اغتسل له ، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ، ثم يصب ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره ثم يكفأ القدح [ ص: 215 ] ; ففعل به ذلك ، فراح سهل مع الناس ليس به بأس " لفظ أحمد من رواية أبي أويس عن الزهري ، ولفظ النسائي من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري بهذا السند أنه يصب صبة على وجهه بيده اليمنى ، وكذلك سائر أعضائه صبة صبة في القدح ، وقال في آخره " ثم يكفأ القدح وراءه على الأرض " ووقع في رواية ابن ماجه من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي أمامة أن عامر بن ربيعة مر بسهل بن حنيف وهو يغتسل ، فذكر الحديث وفيه " فليدع بالبركة . ثم دعا بماء فأمر عامرا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخلة إزاره ، وأمره أن يصب عليه " قال سفيان قال معمر عن الزهري : " وأمر أن يكفأ الإناء من خلفه " قال المازري : المراد بداخلة الإزار الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن ، قال فظن بعضهم أنه كناية عن الفرج انتهى . وزاد عياض أن المراد ما يلي جسده من الإزار ، وقيل : أراد موضع الإزار من الجسد ، وقيل : أراد وركه لأنه معقد الإزار . والحديث في " الموطأ " وفيه عن مالك " حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل أنه سمع أباه يقول ، اغتسل سهل - فذكر نحوه وفيه - فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر فقال : ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء ، فوعك سهل مكانه واشتد وعكه - وفيه - ألا بركت ؟ إن العين حق ، توضأ له ، فتوضأ له عامر فراح سهل ليس به بأس " .

( تنبيهات ) :

الأول : اقتصر النووي في " الأذكار " على قوله : الاستغسال أن يقال للعائن : اغسل داخلة إزارك مما يلي الجلد ، فإذا فعل صبه على المنظور إليه . وهذا يوهم الاقتصار على ذلك ، وهو عجيب ، ولا سيما وقد نقل في " شرح مسلم " كلام عياض بطوله . الثاني : قال المازري هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل ، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه . وقال ابن العربي : إن توقف فيه متشرع قلنا له : قل الله ورسوله أعلم ، وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة . أو متفلسف فالرد عليه أظهر لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها ، وقد تفعل بمعنى لا يدرك ، ويسمون ما هذا سبيله الخواص ، وقال ابن القيم : هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها ولا من سخر منها ولا من شك فيها أو فعلها مجربا غير معتقد ، وإذا كان في الطبيعة خواص لا يعرف الأطباء عللها بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما تفعل بالخاصية فما الذي تنكر جهلتهم من الخواص الشرعية ؟ هذا مع أن في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة ، فهذا ترياق سم الحية يؤخذ من لحمها ، وهذا علاج النفس الغضبية توضع اليد على بدن الغضبان فيسكن ، فكان أثر تلك العين كشعلة نار وقعت على جسد ، ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة . ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة النفوذ فيها ، ولا شيء أرق من المغابن ، فكان في غسلها إبطال لعملها ، ولا سيما أن للأرواح الشيطانية في تلك المواضع اختصاصا . وفيه أيضا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذا ، فتنطفئ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الماء . الثالث : هذا الغسل ينفع بعد استحكام النظرة ، فأما عند الإصابة وقبل الاستحكام فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه بقوله في قصة سهل بن حنيف المذكورة كما مضى " ألا بركت عليه " وفي رواية ابن ماجه " فليدع بالبركة " ومثله عند ابن السني من حديث عامر بن ربيعة ، وأخرج البزار وابن السني من حديث أنس رفعه " من رأى شيئا فأعجبه فقال : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، لم يضره " . وفي الحديث من الفوائد أيضا أن العائن إذا عرف يقضى عليه بالاغتسال ، وأن الاغتسال من النشرة النافعة ، وأن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد ، ولو من الرجل المحب ، ومن الرجل الصالح ، وأن الذي يعجبه الشيء ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة ، ويكون ذلك رقية منه ، وأن الماء المستعمل طاهر ، وفيه جواز الاغتسال بالفضاء ، وأن الإصابة بالعين قد تقتل . وقد اختلف في جريان القصاص بذلك فقال القرطبي : لو أتلف العائن شيئا ضمنه ، ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة ، وهو في ذلك كالساحر [ ص: 216 ] عند من لا يقتله كفرا ، انتهى . ولم يتعرض الشافعية للقصاص في ذلك ، بل منعوه وقالوا : إنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا . وقال النووي في " الروضة : ولا دية فيه ولا كفارة . لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس في بعض الأحوال مما لا انضباط له ، كيف ولم يقع منه فعل أصلا ، وإنما غايته حسد وتمن لزوال نعمة . وأيضا فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص ، ولا يتعين ذلك المكروه في زوال الحياة ، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين ا هـ . ولا يعكر على ذلك إلا الحكم بقتل الساحر فإنه في معناه ، والفرق بينهما فيه عسر . ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم فإنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس وأن يلزم بيته ، فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به ، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر - رضي الله عنه - بمنعه من مخالطة الناس كما تقدم واضحا في بابه ، وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة . قال النووي : وهذا القول صحيح متعين لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه .

التالي السابق


الخدمات العلمية