صفحة جزء
باب الفأل

5423 حدثنا عبد الله بن محمد أخبرنا هشام أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لا طيرة وخيرها الفأل قال وما الفأل يا رسول الله قال الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم
[ ص: 225 ] قوله : ( باب الفأل ) بفاء ثم همزة وقد تسهل ، والجمع فئول بالهمزة جزما .

قوله : ( عن عبيد الله بن عبد الله ) أي ابن عتبة بن مسعود ، وقد صرح في رواية شعيب التي قبل هذه فيه بالإخبار .

قوله : ( قال وما الفأل ) ؟ كذا للأكثر بالإفراد ، وللكشميهني " قالوا " كرواية شعيب .

قوله : ( الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم ) وقال في حديث أنس ثاني حديثي الباب " ويعجبني الفأل الصالح ، الكلمة الحسنة " . وفي حديث عروة بن عامر الذي أخرجه أبو داود قال " ذكرت الطيرة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : خيرها الفأل ، ولا ترد مسلما ، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بالله " وقوله " وخيرها الفأل " قال الكرماني تبعا لغيره : هذه الإضافة تشعر بأن الفأل من جملة الطيرة ، وليس كذلك بل هي إضافة توضيح ، ثم قال : وأيضا فإن من جملة الطيرة كما تقدم تقريره التيامن ، فبين بهذا الحديث أنه ليس كل التيامن مردودا كالتشاؤم ، بل بعض التيامن مقبول . قلت : وفي جواب الأول دفع في صدر السؤال ، وفي الثاني تسليم السؤال ودعوى التخصيص وهو أقرب وقد أخرج ابن ماجه بسند حسن عن أبي هريرة رفعه " كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة " وأخرج الترمذي من حديث حابس التميمي أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " العين حق ، وأصدق الطيرة الفأل " ففي هذا التصريح أن الفأل من جملة الطيرة لكنه مستثنى . وقال الطيبي : الضمير المؤنث في قوله " وخيرها " راجع إلى الطيرة ، وقد علم أن الطيرة كلها لا خير فيها ، فهو كقوله - تعالى - أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وهو مبني على زعمهم ، وهو من إرخاء العنان في المخادعة بأن يجري الكلام على زعم الخصم حتى لا يشمئز عن التفكر فيه ، فإذا تفكر فأنصف من نفسه قبل الحق ، فقوله " خيرها الفأل " إطماع للسامع في الاستماع والقبول ، لا أن في الطيرة خيرا حقيقة ، أو هو من نحو قولهم " الصيف أحر من الشتاء " أي الفأل في بابه أبلغ من الطيرة في بابها . والحاصل أن أفعل التفضيل في ذلك إنما هو بين القدر المشترك بين الشيئين ، والقدر المشترك بين الطيرة والفأل تأثير كل منهما فيما هو فيه ، والفأل في ذلك أبلغ . قال الخطابي : وإنما كان ذلك لأن مصدر الفأل عن نطق وبيان ، فكأنه خبر جاء عن غيب ، بخلاف غيره فإنه مستند إلى حركة الطائر أو نطقه وليس فيه بيان أصلا ، وإنما هو تكلف ممن يتعاطاه . وقد أخرج الطبري عن عكرمة قال : كنت عند ابن عباس فمر طائر فصاح ، فقال رجل : خير خير ، فقال ابن عباس : ما عند هذا لا خير ولا شر . وقال : أيضا الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل من طريق حسن الظن بالله ، والطيرة لا تكون إلا في السوء فلذلك كرهت . وقال النووي : الفأل يستعمل فيما يسوء وفيما يسر ، وأكثره في السرور . والطيرة لا تكون إلا في الشؤم ، وقد تستعمل مجازا في السرور ا هـ . وكأن ذلك بحسب الواقع ، وأما الشرع فخص الطيرة بما يسوء والفأل بما يسر ، ومن شرطه أن لا يقصد إليه فيصير من الطيرة . قال ابن بطال : جعل الله في فطر الناس محبة الكلمة الطيبة والأنس بها كما جعل فيهم الارتياح بالمنظر الأنيق والماء الصافي وإن كان لا يملكه ولا يشربه . وأخرج الترمذي وصححه من حديث أنس " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج لحاجته [ ص: 226 ] يعجبه أن يسمع : يا نجيح يا راشد " وأخرج أبو داود بسند حسن عن بريدة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتطير من شيء ، وكان إذا بعث عاملا يسأل عن اسمه ، فإذا أعجبه فرح به ، وإن كره اسمه رئي كراهة ذلك في وجهه " وذكر البيهقي في " الشعب " عن الحليمي ما ملخصه : كان التطير في الجاهلية في العرب إزعاج الطير عند إرادة الخروج للحاجة ، فذكر نحو ما تقدم ثم قال : وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب وبمرور الظباء فسموا الكل تطيرا ، لأن أصله الأول . قال : وكان التشاؤم في العجم إذا رأى الصبي ذاهبا إلى المعلم تشاءم أو راجعا تيمن ، وكذا إذا رأى الجمل موقرا حملا تشاءم فإن رآه واضعا حمله تيمن ، ونحو ذلك ، فجاء الشرع برفع ذلك كله ، وقال " من تكهن أو رده عن سفر تطير فليس منا " ونحو ذلك من الأحاديث . وذلك إذا اعتقد أن الذي يشاهده من حال الطير موجبا ما ظنه ولم يضف التدبير إلى الله - تعالى - ، فأما إن علم أن الله هو المدبر ولكنه أشفق من الشر لأن التجارب قضت بأن صوتا من أصواتها معلوما أو حالا من أحوالها معلومة يردفها مكروه فإن وطن نفسه على ذلك أساء ، وإن سأل الله الخير واستعاذ به من الشر ومضى متوكلا لم يضره ما وجد في نفسه من ذلك ، وإلا فيؤاخذ به ، وربما وقع به ذلك المكروه بعينه الذي اعتقده عقوبة له كما كان يقع كثيرا لأهل الجاهلية . والله أعلم . قال الحليمي : وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله - تعالى - بغير سبب محقق ، والتفاؤل حسن ظن به ، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله - تعالى - على كل حال . وقال الطيبي : معنى الترخص في الفأل والمنع من الطيرة هو أن الشخص لو رأى شيئا فظنه حسنا محرضا على طلب حاجته فليفعل ذلك . وإن رآه بضد ذلك فلا يقبله بل يمضي لسبيله . فلو قبل وانتهى عن المضي فهو الطيرة التي اختصت بأن تستعمل في الشؤم . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية