صفحة جزء
باب الكهانة

5426 حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث قال حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل فقتلت ولدها الذي في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية ما في بطنها غرة عبد أو أمة فقال ولي المرأة التي غرمت كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل فقال النبي صلى الله عليه وسلمإنما هذا من إخوان الكهان
[ ص: 227 ] قوله : ( باب الكهانة ) وقع في ابن بطال هنا " والسحر " وليس هو في نسخ الصحيح فيما وقفت عليه ، بل ترجمة السحر في باب مفرد عقب هذه ، والكهانة - بفتح الكاف ويجوز كسرها - ادعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب ، والأصل فيها استراق السمع من كلام الملائكة ، فيلقيه في أذن الكاهن . والكاهن لفظ يطلق على العراف ، والذي يضرب بالحصى ، والمنجم ، ويطلق على من يقوم بأمر آخر ويسعى في قضاء حوائجه . وقال في " المحكم " : الكاهن القاضي بالغيب . وقال في " الجامع " : العرب تسمي كل من أذن بشيء قبل وقوعه كاهنا . وقال الخطابي : الكهنة قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطباع نارية ، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور ، وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه . وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية خصوصا في العرب لانقطاع النبوة فيهم . وهي على أصناف : منها ما يتلقونه من الجن ، فإن الجن كانوا يصعدون إلى جهة السماء فيركب بعضهم بعضا إلى أن يدنو الأعلى بحيث يسمع الكلام فيلقيه إلى الذي يليه ، إلى أن يتلقاه من يلقيه في أذن الكاهن فيزيد فيه ، فلما جاء الإسلام ونزل القرآن حرست السماء من الشياطين ، وأرسلت عليهم الشهب ، فبقي من استراقهم ما يتخطفه الأعلى فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب ، إلى ذلك الإشارة بقوله - تعالى - إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب . وكانت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرة جدا كما جاء في أخبار شق وسطيح ونحوهما ، وأما في الإسلام فقد ندر ذلك جدا حتى كاد يضمحل ولله الحمد . ثانيها ما يخبر الجني به من يواليه بما غاب عن غيره مما لا يطلع عليه الإنسان غالبا ، أو يطلع عليه من قرب منه لا من بعد . ثالثها ما يستند إلى ظن وتخمين وحدس ، وهذا قد يجعل الله فيه لبعض الناس قوة مع كثرة الكذب فيه . رابعها ما يستند إلى التجربة والعادة ، فيستدل على الحادث بما وقع قبل ذلك ، ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السحر ، وقد يعتضد بعضهم في ذلك بالزجر والطرق والنجوم ، وكل ذلك مذموم شرعا . وورد في ذم الكهانة ما أخرجه أصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة رفعه " من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " وله شاهد من حديث جابر وعمران بن حصين أخرجهما البزار بسندين جيدين ولفظهما " من أتى كاهنا " وأخرجه مسلم من حديث امرأة من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 228 ] ومن الرواة من سماها حفصة - بلفظ " من أتى عرافا " وأخرجه أبو يعلى من حديث ابن مسعود بسند جيد ، لكن لم يصرح برفعه ، ومثله لا يقال بالرأي ، ولفظه " من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا " واتفقت ألفاظهم على الوعيد بلفظ حديث أبي هريرة ، إلا حديث مسلم فقال فيه " لم يقبل لهما صلاة أربعين يوما " . ووقع عند الطبراني من حديث أنس بسند لين مرفوعا بلفظ " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل على محمد ، ومن أتاه غير مصدق له لم تقبل صلاته أربعين يوما " والأحاديث الأول مع صحتها وكثرتها أولى من هذا ، والوعيد جاء تارة بعدم قبول الصلاة وتارة بالتكفير ، فيحمل على حالين من الآتي أشار إلى ذلك القرطبي . والعراف بفتح المهملة وتشديد الراء من يستخرج الوقوف على المغيبات بضرب من فعل أو قول . ثم ذكر المصنف ثلاثة أحاديث : أحدها حديث أبي هريرة .

قوله : ( عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة ) وساقه بطوله ، كذا قال عبد الرحمن بن خالد بن مسافر من رواية الليث عنه عن ابن شهاب ، وفصل مالك عن ابن شهاب قصة ولي المرأة فجعله من رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب مرسلا كما بينه المصنف في الطريق التي تلي طريق ابن مسافر هذه ، وقد روى الليث عن ابن شهاب أصل الحديث بدون الزيادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة موصولا كما سيأتي في الديات ، وكذا أخرج هناك طريق يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد معا عن أبي هريرة بأصل الحديث دون الزيادة ، ويأتي شرح ما يتعلق بالجنين والغرة هناك إن شاء الله - تعالى - .

قوله : ( فقال ولي المرأة ) هو حمل بفتح المهملة والميم الخفيفة ابن مالك ابن النابغة الهذلي ، بينه مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة معا عن أبي هريرة ، وكنية حمل المذكور أبو نضلة ، وهو صحابي نزل البصرة . وفي رواية مالك " فقال الذي قضي عليه " أي قضي على من هي منه بسبيل ، وفي رواية الليث عن ابن شهاب المذكورة أن المرأة من بني لحيان ، وبنو لحيان حي من هذيل ، وجاء تسمية الضرتين فيما أخرج أحمد من طريق عمرو بن تميم بن عويم عن أبيه عن جده قال " كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال لها أم عفيف بنت مسروح تحت حمل بن مالك بن النابغة ، فضربت أم عفيف مليكة بمسطح " الحديث ، لكن قال فيه " فقال العلاء بن مسروح : يا رسول الله ، أنغرم من لا شرب ولا أكل " الحديث ، وفي آخره " أسجع كسجع الجاهلية " ويجمع بينهما بأن كلا من زوج المرأة وهو حمل وأخيها وهو العلاء قال ذلك تواردا معا عليه ، لما تقرر عندهما أن الذي يودى هو الذي يخرج حيا ، وأما السقط فلا يودى ، فأبطل الشرع ذلك وجعل فيه غرة ، وسيأتي بيانه في كتاب الديات إن شاء الله - - تعالى - . ووقع في رواية للطبراني أيضا أن الذي قال ذلك عمران بن عويم ، فلعلها قصة أخرى . وأم عفيف بمهملة وفاءين وزن عظيم ، ووقع في المبهمات للخطيب ، وأصله عند أبي داود والنسائي من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنها أم غطيف بغين ثم طاء مهملة مصغرا ، فالله أعلم .

قوله : ( كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل ) في رواية مالك " من لا أكل ولا شرب " والأول أولى لمناسبة السجع . ووقع في رواية الكشميهني في رواية مالك " ما لا " بدل " من لا " وهذا هو الذي في " الموطأ " . وقال أبو عثمان بن جني : معنى قوله لا أكل أي لم يأكل ، أقام الفعل الماضي مقام المضارع .

قوله : ( فمثل ذلك يطل ) للأكثر بضم المثناة التحتانية وفتح الطاء المهملة وتشديد اللام أي يهدر ، يقال دم فلان هدر إذا ترك الطلب بثأره ، وطل الدم بضم الطاء وبفتحها أيضا ، وحكي " أطل " ولم يعرفه الأصمعي : ووقع للكشميهني في رواية ابن مسافر " بطل " بفتح الموحدة والتخفيف من البطلان كذا رأيته في نسخة [ ص: 229 ] معتمدة من رواية أبي ذر ، وزعم عياض أنه وقع هنا للجميع بالموحدة ، قال : وبالوجهين في الموطأ ، وقد رجح الخطابي أنه من البطلان ، وأنكره ابن بطال فقال : كذا يقوله أهل الحديث ، وإنما هو طل الدم إذا هدر . قلت : وليس لإنكاره معنى بعد ثبوت الرواية ، وهو موجه ، راجع إلى معنى الرواية الأخرى .

قوله : ( إنما هذا من إخوان الكهان ) أي لمشابهة كلامه كلامهم ، زاد مسلم والإسماعيلي من رواية يونس " من أجل سجعه الذي سجع " قال القرطبي : هو من تفسير الراوي ، وقد ورد مستند ذلك فيما أخرجه مسلم في حديث المغيرة بن شعبة " فقال رجل من عصبة القاتلة يغرم " فذكر نحوه وفيه " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسجع كسجع الأعراب " ؟ والسجع هو تناسب آخر الكلمات لفظا ، وأصله الاستواء ، وفي الاصطلاح الكلام المقفى والجمع أسجاع وأساجيع ، قال ابن بطال : فيه ذم الكفار وذم من تشبه بهم في ألفاظهم ، وإنما لم يعاقبه لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان مأمورا بالصفح عن الجاهلين ، وقد تمسك به من كره السجع في الكلام ، وليس على إطلاقه ، بل المكروه منه ما يقع مع التكلف في معرض مدافعة الحق ، وأما ما يقع عفوا بلا تكلف في الأمور المباحة فجائز ، وعلى ذلك يحمل ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الدعوات . والحاصل أنه إن جمع الأمرين من التكلف وإبطال الحق كان مذموما ، وإن اقتصر على أحدهما كان أخف في الذم ، ويخرج من ذلك تقسيمه إلى أربعة أنواع : فالمحمود ما جاء عفوا في حق ، ودونه ما يقع متكلفا في حق أيضا ، والمذموم عكسهما . وفي الحديث من الفوائد أيضا رفع الجناية للحاكم ، ووجوب الدية في الجنين ولو خرج ميتا كما سيأتي تقريره في كتاب الديات مع استيفاء فوائده .

التالي السابق


الخدمات العلمية