صفحة جزء
باب عذاب المصورين يوم القيامة

5606 حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا الأعمش عن مسلم قال كنا مع مسروق في دار يسار بن نمير فرأى في صفته تماثيل فقال سمعت عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون
قوله : ( باب عذاب المصورين يوم القيامة ) أي الذين يصنعون الصور . ذكر فيه حديثين : الأول .

قوله : ( عن مسلم ) هو ابن صبيح أبو الضحى وهو بكنيته أشهر ، وجوز الكرماني أن يكون مسلم بن عمران البطين ثم قال : إنه الظاهر ، وهو مردود فقد وقع في رواية مسلم في هذا الحديث من طريق وكيع عن الأعمش عن أبي الضحى .

قوله : ( كنا مع مسروق ) هو ابن الأجدع .

قوله : ( في دار يسار بن نمير ) هو بتحتانية ومهملة خفيفة ، وأبوه بنون مصغر ; ويسار مدني سكن الكوفة وكان مولى عمر وخازنه ، وله رواية عن عمر وعن غيره . وروى عنه أبو وائل وهو من أقرانه ، وأبو بردة بن أبي موسى وأبو إسحاق السبيعي ، وهو موثق ولم أر له في البخاري إلا هذا الموضع .

قوله : ( فرأى في صفته ) بضم المهملة وتشديد الفاء في رواية منصور عن أبي الضحى عند مسلم " كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل فقال لي مسروق هذه تماثيل كسرى ، فقلت : لا هذه تماثيل مريم " كأن مسروقا ظن أن التصوير كان من مجوسي ، وكانوا يصورون صورة ملوكهم حتى في الأواني ، فظهر أن التصوير كان من نصراني لأنهم يصورون صورة مريم والمسيح وغيرهما ويعبدونها .

قوله : ( سمعت عبد الله ) هو ابن مسعود وفي رواية منصور فقال : " أما إني سمعت عبد الله بن مسعود " .

قوله : ( إن أشد الناس عذابا عند الله المصورون ) وقع في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان يوم القيامة بدل قوله : عند الله وكذا هو في مسند ابن أبي عمر عن سفيان ، وأخرجه عن الإسماعيلي من طريقه ، فلعل الحميدي حدث به على الوجهين بدليل ما وقع في الترجمة ، أو لما حدث به البخاري حدث به بلفظ " عند الله " والترجمة مطابقة للفظ الذي في حديث ابن عمر ثاني حديثي الباب ، والمراد بقوله " عند الله " حكم الله . ووقع عند مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش أن من أشد الناس واختلف نسخه ففي بعضها " المصورين " وهي للأكثر وفي بعضها " المصورون " وهي لأحمد عن أبي معاوية أيضا ، ووجهت بأن " من " زائدة واسم إن أشد ، ووجهها ابن مالك على حذف ضمير الشأن والتقدير أنه من أشد الناس إلخ . وقد استشكل كون [ ص: 397 ] المصور أشد الناس عذابا مع قوله - تعالى - : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب فإنه يقتضي أن يكون المصور أشد عذابا من آل فرعون ، وأجاب الطبري بأن المراد هنا من يصور ما يعبد من دون الله وهو عارف بذلك قاصدا له فإنه يكفر بذلك ، فلا يبعد أن يدخل مدخل آل فرعون وأما من لا يقصد ذلك فإنه يكون عاصيا بتصويره فقط . وأجاب غيره بأن الرواية بإثبات " من " ثابتة وبحذفها محمولة عليها ، وإذا كان من يفعل التصوير من أشد الناس عذابا كان مشتركا مع غيره ، وليس في الآية ما يقتضي اختصاص آل فرعون بأشد العذاب بل هم في العذاب الأشد ، فكذلك غيرهم يجوز أن يكون في العذاب الأشد ، وقوى الطحاوي ذلك بما أخرجه من وجه آخر عن ابن مسعود رفعه إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي ، وإمام ضلالة ، وممثل من الممثلين وكذا أخرجه أحمد . وقد وقع بعض هذه الزيادة في رواية ابن أبي عمر التي أشرت إليها فاقتصر على المصور وعلى من قتله نبي ، وأخرج الطحاوي أيضا من حديث عائشة مرفوعا أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل هجا رجلا فهجا القبيلة بأسرها قال الطحاوي : فكل واحد من هؤلاء يشترك مع الآخر في شدة العذاب . وقال أبو الوليد بن رشد في " مختصر مشكل الطحاوي " ما حاصله : إن الوعيد بهذه الصيغة إن ورد في حق كافر فلا إشكال فيه لأنه يكون مشتركا في ذلك مع آل فرعون ويكون فيه دلالة على عظم كفر المذكور ، وإن ورد في حق عاص فيكون أشد عذابا من غيره من العصاة ويكون ذلك دالا على عظم المعصية المذكورة . وأجاب القرطبي في " المفهم " بأن الناس الذين أضيف إليهم أشد لا يراد بهم كل الناس بل بعضهم وهم من يشارك في المعنى المتوعد عليه بالعذاب ، ففرعون أشد الناس الذين ادعوا الإلهية عذابا ، ومن يقتدى به في ضلالة كفره أشد عذابا ممن يقتدى به في ضلالة فسقه ، ومن صور صورة ذات روح للعبادة أشد عذابا ممن يصورها لا للعبادة . واستشكل ظاهر الحديث أيضا بإبليس وبابن آدم الذي سن القتل ، وأجيب بأنه في إبليس واضح ، ويجاب بأن المراد بالناس من ينسب إلى آدم ، وأما في ابن آدم فأجيب بأن الثابت في حقه أن عليه مثل أوزار من يقتل ظلما ، ولا يمتنع أن يشاركه في مثل تعذيبه من ابتدأ الزنا مثلا فإن عليه مثل أوزار من يزني بعده لأنه أول من سن ذلك ، ولعل عدد الزناة أكثر من القاتلين . قال النووي قال العلماء : تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد ، وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره فصنعه حرام بكل حال ، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها ، فأما تصوير ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام . قلت : ويؤيد التعميم فيما له ظل وفيما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا صورة إلا لطخها أي طمسها " الحديث ، وفيه من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد وقال الخطابي : إنما عظمت عقوبة المصور لأن الصور كانت تعبد من دون الله ; ولأن النظر إليها يفتن ، وبعض النفوس إليها تميل . قال : والمراد بالصور هنا التماثيل التي لها روح وقيل : يفرق بين العذاب والعقاب ، فالعذاب يطلق على ما يؤلم من قول أو فعل كالعتب والإنكار ، والعقاب يختص بالفعل فلا يلزم من كون المصور أشد الناس عذابا أن يكون أشد الناس عقوبة . هكذا ذكره الشريف المرتضى في " الغرر " وتعقب بالآية المشار إليها وعليها انبنى الإشكال ، ولم يكن هو عرج عليها ، فلهذا ارتضى التفرقة ، والله أعلم . واستدل به أبو علي الفارسي في " التذكرة " على تكفير المشبهة فحمل الحديث عليهم وأنهم المراد بقوله المصورون أي الذين يعتقدون أن لله صورة . وتعقب بالحديث الذي بعده في الباب بلفظ إن الذين يصنعون هذه الصورة يعذبون وبحديث عائشة الآتي بعد بابين بلفظ إن أصحاب هذه الصور يعذبون وغير ذلك ، ولو سلم له استدلاله لم يرد عليه الإشكال المقدم ذكره . وخص بعضهم الوعيد الشديد بمن [ ص: 398 ] صور قاصدا أن يضاهي ، فإنه يصير بذلك القصد كافرا ، وسيأتي في " باب ما وطئ من التصاوير " بلفظ أشد الناس عذابا الذين يضاهون بخلق الله - تعالى - وأما من عداه فيحرم عليه ويأثم ، لكن إثمه دون إثم المضاهي . قلت : وأشد منه من يصور ما يعبد من دون الله كما تقدم . وذكر القرطبي أن أهل الجاهلية كانوا يعملون الأصنام من كل شيء حتى إن بعضهم عمل صنمه من عجوة ثم جاع فأكله . الحديث الثاني .

التالي السابق


الخدمات العلمية