صفحة جزء
باب الهجرة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال

5725 حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني عوف بن مالك بن الطفيل هو ابن الحارث وهو ابن أخي عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأمها أن عائشة حدثت أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها فقالت أهو قال هذا قالوا نعم قالت هو لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدا فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة فقالت لا والله لا أشفع فيه أبدا ولا أتحنث إلى نذري فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وهما من بني زهرة وقال لهما أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة فقالا السلام عليك ورحمة الله وبركاته أندخل قالت عائشة ادخلوا قالوا كلنا قالت نعم ادخلوا كلكم ولا تعلم أن معهما ابن الزبير فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه ويقولان إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكرهما نذرها وتبكي وتقول إني نذرت والنذر شديد فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها
[ ص: 507 ] قوله : ( باب الهجرة ) بكسر الهاء وسكون الجيم ، أي ترك الشخص مكالمة الآخر إذا تلاقيا ، وهي في الأصل الترك فعلا كان أو قولا ، وليس المراد بها مفارقة الوطن فإن تلك تقدم حكمها .

قوله : ( وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ) قد وصله في الباب عن أبي أيوب ، وأراد هنا أن يبين أن عمومه مخصوص بمن هجر أخاه بغير موجب لذلك ، قال النووي قال العلماء تحرم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال بالنص وتباح في الثلاث بالمفهوم ، وإنما عفي عنه في ذلك لأن الآدمي مجبول على الغضب ، فسومح بذلك القدر ليرجع ويزول ذلك العارض . وقال أبو العباس القرطبي : المعتبر ثلاث ليال ، حتى لو بدأ بالهجرة في أثناء النهار ألغي البعض وتعتبر ذلك ليلة اليوم ، وينقضي العفو بانقضاء الليلة الثالثة . قلت : وفي الجزم باعتبار الليالي دون الأيام جمود ، وقد مضى في " باب ما نهي عن التحاسد " في رواية شعيب في حديث أبي أيوب بلفظ ثلاثة أيام فالمعتمد أن المرخص فيه ثلاثة أيام بلياليها ، فحيث أطلقت الليالي أريد بأيامها وحيث أطلقت الأيام أريد بلياليها ، ويكون الاعتبار مضي ثلاثة أيام بلياليها ملفقة ، إذا ابتدئت مثلا من الظهر يوم السبت كان آخرها الظهر يوم الثلاثاء ، ويحتمل أن يلغى الكسر ، ويكون أول العدد من ابتداء اليوم أو الليلة ، والأول أحوط .

فيه عن ثلاثة من الصحابة شيء مرفوع وباقيه عنهم وعن رابع موقوف .

[ ص: 508 ] قوله : ( حدثني عوف بن الطفيل وهو ابن أخي عائشة ) كذا عند النسفي وأبي ذر ، وعند غيرهما وكذا أخرجه أحمد عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه فقال : " عوف بن مالك بن الطفيل ، وهو ابن أخي عائشة لأمها " وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق علي بن المديني من رواية الأوزاعي وصالح بن كيسان ومعمر ثلاثتهم عن الزهري ، ففي رواية الأوزاعي عنه " حدثني الطفيل بن الحارث وكان من أزد شنوءة وكان أخا لها من أمها أم رومان " وفي رواية صالح عنه " حدثني عوف بن الطفيل بن الحارث وهو ابن أخي عائشة لأمها " وفي رواية معمر " عوف بن الحارث بن الطفيل " قال علي بن المديني : هكذا اختلفوا والصواب عندي وهو المعروف عوف بن الحارث بن الطفيل بن سخبرة يعني بفتح المهملة والموحدة بينهما معجمة ساكنة ، قال : والطفيل أبوه هو الذي روى عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عنه ، يعني حديث لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان أخرجه النسائي وابن ماجه ، وكذا أخرج أحمد من طريق معمر والأوزاعي ، وقال إبراهيم الحربي في " كتاب النهي عن الهجران " بعد أن أورد من طريق معمر وشعيب وصالح والأوزاعي كما تقدم ، ومن طريق عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن الزهري عن عوف بن الحارث بن الطفيل ، ومن طريق النعمان بن راشد عن الزهري عن عروة عن المسور : هذا وهم ، قال : وكذا وهم الأوزاعي في قوله الطفيل بن الحارث وصالح في قوله عوف بن الطفيل بن الحارث ، وأصاب معمر وعبد الرحمن بن خالد في قولهما عوف بن الحارث بن الطفيل ، كذا قال ، ثم قال : الذي عندي أن الحارث بن سخبرة الأزدي قدم مكة ومعه امرأته أم رومان بنت عامر الكنانية فحالف أبا بكر الصديق ، ثم مات فخلف أبو بكر على أم رومان فولدت له عبد الرحمن وعائشة وكان لها من الحارث الطفيل بن الحارث فهو أخو عائشة لأمها ، وولد الطفيل بن الحارث عوفا ، وله عن عائشة رواية غير هذه ، وهو الذي حدث عنه الزهري انتهى . فعلى هذا يكون الذي أصاب في تسميته ونسبه صالح بن كيسان ، وأما معمر وعبد الرحمن بن خالد فقلباه ، والأول هو الذي صوبه علي بن المديني . وقد اختلف على الأوزاعي ، فالرواية التي ذكرها الحربي عنه هي رواية الوليد بن مسلم ، وأخرجه الإسماعيلي من رواية ابن كثير عن الأوزاعي على وفق رواية معمر وابن خالد ، وأما شعيب في رواية أحمد فقلب الحارث أيضا فسماه مالكا ، وحذفه البخاري في رواية أبي ذر فأصاب وسكت عن تسمية جده ، وقد أخرج البخاري في " الأدب المفرد " رواية عبد الرحمن بن خالد كذلك . وإذا تحرر ذلك ظهر أن الذي جزم به ابن الأثير في " جامع الأصول " من أنه عوف بن مالك بن الطفيل ليس بجيد ، والاختلاف المذكور كله في تحرير اسم الراوي هنا عن عائشة ونسبه إلا رواية النعمان بن راشد فإنها شاذة ; لأنه قلب شيخ الزهري فجعله عروة بن الزبير والمحفوظ رواية الجماعة ، على أن للخبر من رواية عروة أصلا كما تقدم في أوائل مناقب قريش لكنه من غير رواية الزهري عنه .

قوله : ( إن عائشة حدثت ) كذا للأكثر بضم أوله وبحذف المفعول ، ووقع في رواية الأصيلي " حدثته " والأول أصح ، ويؤيده أن في رواية الأوزاعي " أن عائشة بلغها " ، ووقع في رواية معمر على الوجهين ، ووقع في رواية صالح أيضا " حدثته " .

قوله : ( في بيع أو عطاء أعطته عائشة ) في رواية الأوزاعي " في دار لها باعتها ، فسخط عبد الله بن الزبير بيع تلك الدار " .

قوله : ( لتنتهين عائشة ) زاد في رواية الأوزاعي " فقال : أما والله لتنتهين عائشة عن بيع رباعها " وهذا مفسر لما [ ص: 509 ] أبهم في رواية غيره ، وكذا لما تقدم في مناقب قريش من طريق عروة قال " كانت عائشة لا تمسك شيئا ، فما جاءها من رزق الله تصدقت به " وهذا لا يخالف الذي هنا لأنه يحتمل أن تكون باعت الرباع لتتصدق بثمنها ، وقوله " لتنتهين أو لأحجرن عليها " هذا أيضا يفسر قوله في رواية عروة " ينبغي أن يؤخذ على يدها " .

قوله : ( لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدا ) في رواية عبد الرحمن بن خالد " كلمة أبدا " وفي رواية معمر " بكلمة " وفي رواية الإسماعيلي من طريق الأوزاعي بدل قوله أبدا " حتى يفرق الموت بيني وبينه " قال ابن التين : قولها " أن لا أكلم " تقديره علي نذر إن كلمته اهـ . ووقع في بعض الروايات بحذف " لا " وشرح عليها الكرماني وضبطها بالكسر بصيغة الشرط قال : وهو الموافق للرواية المتقدمة في مناقب قريش بلفظ " لله علي نذر إن كلمته " فعلى هذا يكون النذر معلقا على كلامه لا أنها نذرت ترك كلامه ناجزا .

قوله : ( فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة ) كذا للأكثر ، ووقع في رواية السرخسي والمستملي " حتى " بدل " حين " والأول الصواب ، ووقع في رواية معمر على الصواب ، زاد في رواية الأوزاعي " فطالت هجرتها إياه فنقصه الله بذلك في أمره كله ، فاستشفع بكل جدير أنها تقبل عليه " في الرواية الأخرى عنه " فاستشفع عليها بالناس فلم تقبل " وفي رواية عبد الرحمن بن خالد " فاستشفع ابن الزبير بالمهاجرين " وقد أخرج إبراهيم الحربي من طريق حميد بن قيس بن عبد الله بن الزبير قال فذكر نحو هذه القصة قال " فاستشفع إليها بعبيد بن عمير فقال لها : أين حديث أخبرتنيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الصوم فوق ثلاث " .

قوله : ( فقالت لا ولله لا أشفع ) بكسر الفاء الثقيلة .

قوله : ( فيه أحدا ) في رواية الكشميهني " أبدا " بدل قوله " أحدا " وجمع بين اللفظين في رواية عبد الرحمن بن خالد وكذا في رواية معمر .

قوله : ( ولا أتحنث إلى نذري ) في رواية معمر " ولا أحنث في نذري " وفي رواية الأوزاعي " فقالت والله لا آثم فيه " أي في نذرها أو في ابن الزبير وتكون " في " سببية .

قوله : ( فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وهما من بني زهرة ) أما المسور فهو ابن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن زهرة بن كلاب ، وأما عبد الرحمن فجده يغوث بفتح التحتانية وضم المعجمة وسكون الواو بعدها مثلثة وهو ابن وهيب بن عبد مناف بن زهرة ، يجتمع مع المسور في عبد مناف بن زهرة ، ووهيب وأهيب أخوان ، ومات الأسود قبل الهجرة ولم يسلم ، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبد الرحمن صغير فذكر في الصحابة ، وله في البخاري غير هذا الموضع حديث عن أبي بن كعب سيأتي قريبا ، ووقع في رواية عروة المتقدمة " فاستشفع إليها برجال من قريش وبأخوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة " وقد بينت هناك معنى هذه الخئولة وصفة قرابة بني زهرة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل أبيه وأمه .

قوله : ( أنشدكما بالله لما ) بالتخفيف و " ما " زائدة ويجوز التشديد حكاه عياض ، يعني ألا ، أي لا أطلب إلا الإدخال عليها ، ونظره بقوله - تعالى - : لما جميع لدينا محضرون وقوله : لما عليها حافظ فقد قرئا بالوجهين ، وفي رواية الكشميهني " ألا أدخلتماني " زاد الأوزاعي فسألهما أن يشتملا عليه بأرديتهما .

[ ص: 510 ] قوله : ( فإنها ) في رواية الكشميهني " فإنه " والهاء ضمير الشأن .

قوله : ( لا يحل لها أن تنذر قطيعتي ) لأنه كان ابن أختها وهي التي كانت تتولى تربيته غالبا .

قوله : ( فقالا السلام عليك ورحمة الله وبركاته ) في رواية معمر " فقالا السلام على النبي ورحمة الله " فيحتمل أن تكون الكاف في الأول مفتوحة .

قوله : ( أندخل ؟ قالت : نعم . قالوا : كلنا ؟ قالت : نعم ) في رواية الأوزاعي " قالا : ومن معنا ؟ قالت : ومن معكما " .

قوله : ( فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي ) في رواية الأوزاعي " فبكى إليها وبكت إليه وقبلها " وفي روايته الأخرى عند الإسماعيلي " وناشدها ابن الزبير الله والرحم " .

قوله : ( ويقولان إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عما قد علمت من الهجرة وإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ) في رواية معمر " أنه لا يحل " بحذف الواو وهو كالتفسير لما قبله ويؤيد ذلك ورود الحديث مرفوعا من طريق أخرى كحديثي أنس وأبي أيوب اللذين بعده ، وهذا القدر هو المرفوع من الحديث ، وهو هنا من مسند المسور وعبد الرحمن بن الأسود وعائشة جميعا فإنها أقرتهما على ذلك ، وقد غفل أصحاب الأطراف عن ذكره في مسند عبد الرحمن بن الأسود لكونه مرسلا ، ولكن ذكروا أنظاره فيلزمهم من هذه الحيثية ، وله عن عائشة طريق أخرى تقدم بيانها وأنها من رواية حميد بن قيس عن عبيد بن عمير عنها ، وأخرجه أيضا أبو داود من طريق أخرى عن عائشة ، وجاء المتن عن جماعة كثيرة من الصحابة يزيد بعضهم على بعض كما سأبينه بعد .

( تنبيه ) : ادعى المحب الطبري أن الهجران المنهي عنه ترك السلام إذا التقيا ، ولم يقع ذلك من عائشة في حق ابن الزبير ، ولا يخفى ما فيه ، فإنها حلفت أن لا تكلمه والحالف يحرص على أن لا يحنث ، وترك السلام داخل في ترك الكلام ، وقد ندمت على سلامها عليه فدل على أنها اعتقدت أنها حنثت ، ويؤيده ما كانت تعتقه في نذرها ذلك .

قوله : ( فلما أكثروا على عائشة من التذكرة ) أي التذكير بما جاء في فضل صلة الرحم والعفو وكظم الغيظ .

قوله : ( والتحريج ) بحاء مهملة ثم الجيم أي الوقوع في الحرج وهو الضيق لما ورد في القطيعة من النهي ، وفي رواية معمر " التخويف " .

قوله : ( فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير ) في رواية الأوزاعي " فكلمته بعد ما خشي أن لا تكلمه ، وقبلت منه بعد أن كادت أن لا تقبل منه " .

قوله : ( وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة ) في رواية الأوزاعي " ثم بعثت إلى اليمن بمال فابتيع لها به أربعون رقبة فأعتقتها كفارة لنذرها " ووقع في رواية عروة المتقدمة " فأرسل إليها بعشر رقاب فأعتقتهم " وظاهره أن عبد الله بن الزبير أرسل إليها بالعشرة أولا ، ولا ينافي رواية الباب أن تكون هي اشترت بعد ذلك تمام الأربعين فأعتقتهم ، وقد وقع في الرواية الماضية " ثم لم تزل حتى بلغت أربعين " .

[ ص: 511 ] قوله : ( وكانت تذكر نذرها ) في رواية الأوزاعي " قال عوف بن الحارث ثم سمعتها بعد ذلك تذكر نذرها ذلك " ووقع في رواية عروة أنها قالت : " وددت أني جعلت حين حلفت عملا فأعمله فأفرغ منه " ، وبينت هناك ما يحتمله كلامها هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية